كثيرا ما نردد بأننا ورثة الحضارات الاولى والأديان التي رسخت القيم الإنسانية وحثت على العون والمساعدة والتكافل بين أبناء البشر، لكن الواقع يكشف عن القليل فقطمن المشاريع الخيرية الإنسانية النافعة قدمها اثرياء او رجال اعمال عراقيين لمواطنيهم، في وقت تتكرر اخبار تخصيص اثرياء ورجال اعمال ونجوم بعض ثرواتهم، او كلها، للاعما ل الخيرية والمشاريع الإنسانية والصحية والتعليمية في دول العالم، مساهمة في اعانة الناس في بلدانهم او خارجها، مثل بناء مستشفيات ومراكز بحوث طبية ومدارس وجامعات و مآوى للعجزة والايتام والمشردين وتطبيبهم ... الخ.
لماذا لا تتكرر في العراق حالات تبرع مشابهة من الأثرياء ورجال الأعمال وتوظيف بعض ثرواتهم في مشاريع إنسانية نافعة للمجتمع؟
لم تسجل الذاكرة العراقية المعاصرة الا عددا محدودا من المشاريع الخيرية التي تبرع بها وجهاء أو اثرياء واوقفوها على مساعدة الناس.
ولعل أحد ابرز تلك المشاريع "مستشفى مرجان" في الحلة الذي تبرع به عبد الرزاق مرجان، وقد افتتح من قبل الملك فيصل الثاني في 21 اذار 1957 ليكون الأول من نوعه في العراق لعلاج التدرن.
ابنة الحلة الدكتورة مديحة البيرماني كررت الموقف بعد حوالي 58 سنة بالتبرع بما تيسر لديها من مال كسبته من عملها كطبيبة اختصاصية على مدى نحو خمسة عقود، وما آل اليها من إرث عائلي، لتبني به مدرسة ثانوية لبنات المدينةبلغت كلفتها حوالي مليار ونصف المليار دينار عراقي.
قبل هذا وذاك يتوقف الحوار عند محطات مؤثرة في حياة ضيفة البرنامج التينشأت في عائلة متوسطة محافظة في ظل والد محافظ اولي التعليم وأم مدبرة، وعدد من الاشقاء والشقيقات، مديحة تؤشر بتقدير دور والدها وأخوتها الكبار في مساعدتها على تحقيق حلمها الاولالذي رافقها منذ الطفولة بأن تكون طبيبة، ولا غير ذلك!، وهذا يعني ان تقاتل وتجهد النفس وتنكب على الدراسة لتحقيق الحلم.
الطالبة الوحيدة في ثانوية الحلة للبنين
بعد انهائها المرحلة المتوسطة واجهت حقيقة عدم وجود اعدادية للبنات في مدينة الحلة حينذاك بشجاعة، فانصاع الاب والاخ الكبير لإصرار البنت على الدراسة حتى ولو بدخولها إعدادية البنين في المدينة لتكون الطالبة الوحيدة مع نحو الف طالب نهاية الخمسينات.
وفي سابقة جميلة نجحت الطالبة مديحة ونجحت المدرسة ونجح زملاؤها في ان يتحول وجودها في الصف والمدرسة الى حافز لاحترام الدراسة والعلم ، وإشاعة السلوك الملتزم والمواضبة، فقد اشاعت هذه الصبية روح الاخوة والاحترام في الصف وسَرت عدوى حبِ الدراسة والتنافس بين الطلبة لتشمل حتى من كان منهم كسولا ومهملا ، فحقق الصف تميزا في النتائج.
ترصد السيرة الشخصية التي كتبتها صاحبتها البيرماني عن قرار العائلة الشجاع والمقدِس للدراسة والعلم بإرسال ابنتهم الى إنكلترا لدخول كلية الطب هناك حتى ولو لسنة واحدة ليؤهلها فيما بعد لدخول كلية طب بغداد وهذا ما كان، فواجهت بنت السبعة عشر عاما حياة المجتمع البريطاني بحكمة واستيعاب وهي التي خرجت للتو من بساطة وصرامة بيئتها الأولى في مدينة الحلة.
الحوار يتوقف عند مواقف وإضاءات تستحق التمعن في تجربة هذه السيدة التي تعتبر ان بلدها الأول، العراق، هو الجذر و الهوية، وهي تشعر بالامتنان لما نهلت منه في بداية حياتها، لذا فان قرارها بالتبرع بما تملك لأهل مدينتها بعضٌ من دين ووفاء للبلد والمدرسة الأولى الذي – برغم الصعاب-ما زالت تفخر به.
سنتعرف على جوانب من ذكرياتها عن عملها كطبيبة في المستشفيات العراقية وتعاملها مع مرضاها ومراجعيها.
وكيف نجحت وماذا حققت وتعلمتوأفادت من المجتمعات الأخرى، في بريطانيا والسويد والنرويج حيث تعيش حاليا؟ و برغم أن د مديحة البيرماني لا ترغب بالحديث عن نفسها وإنجازاتها وتبرعها بالمميز، الا أن التعرف على شخصيتها يقع ضمن التنبيه لنماذج ينبغي ان يتوقف عندها الجيل الجديد، وقبلهم، الأثرياء ممن أثروا في السنوات الأخيرة بشكل مباغت، بشكل شرعي وغير شرعي!، حتى صار امتلاك بعضهم ما قيمته مليارات الدنانير أمراًلا يدعو للدهشة والاستغراب، برغم أن أغلبهم غير مؤهلعلميا او مهنيا ، بل تجده وامثاله في تسابق وصراع لمضاعفة الثروة ورفع مبالغ أمواله وقيم عقاراته واطيانه.
الحوار مع ضيفة برنامج حوارات الدكتورة البيرماني( الذي يمكن الاستماع اليه في الملف الصوتي ادناه) يلامس مناطق ذات دلالة في مفهوم التبرع وغايته وثقافته والدوافع وراء قرارها في بناء مدرسة لبناتها الحلّيات، بالرغم من أنها مغتربة منذ حوالي ثلاثين عاما خارج العراق.