كان العراقيون في زمن مضى يتباهون بأن بلدهم يحمل الرقم القياسي العالمي في عدد النخيل. وتبين احصاءات مختلفة ان ضفاف الانهر وبساتين العراق واراضيه الزراعية كانت تزهو بنحو ثلاثين مليون نخلة تستظل بها محاصيله الزراعية الأخرى. وكانت اصناف التمور التي يحملها نخيل العراق تتناسب مع أعدادها حتى ان الباحث يواجه صعوبة في حصر انواعها واسمائها.
ولكن تلك الفترة تبدو اليوم زمنا غابر القِدم بعد ان تآمرت الحروب والاهمال وسوء الادارة وأزمة الماء والتصحر والأمراض على هذه الشجرة النبيلة متسببة في تناقص اعدادها وعزوف الفلاح عن زراعتها. فهي لم تعد مهنة مجزية بسبب التكاليف المترتبة على العناية ببساتين النخيل وتوفير الماء لها وحمايتها.
ومع تردي احوال النخيل تناقص انتاج التمور حتى أصبح سلعة استهلاكية تباع بأسعار مرتفعة بعد ان كانت غذاء الفقير لوفرتها ورخص ثمنها وقيمتها الغذائية في الوقت نفسه. ويكفي للتدليل على ما آلت اليه حال النخلة العراقية ان السوق تبيع الآن تمورا مستوردة في اهانة لزراعة النخيل المحلية ذات التقاليد العريقة والأرقام القياسية.
وشهدت السنوات الماضية جهودا متعددة بذلتها جهات مختلفة لرد الاعتبار الى النخلة العراقية واستثمار ثمرتها. ولكن هذه الجهود اصطدمت بعقبات متعددة ليس أقلها تجريف الكثير من بساتين النخيل والتجاوز عليها وتحويلها الى اراض سكنية. وكما هي العادة مع المشاريع الأخرى في العراق جاءت محاولات انعاش نخيل العراق متعثرة لأسباب مختلفة ، منها بطبيعة الحال الفساد وسوء التخطيط والبيروقراطية والفوضى التي تعم الدوائر الرسمية والوزارات بفضل المحاصصة على سبيل المثال لا الحصر. وما يصح على النخيل يصح على القطاع الزراعي بصفة عامة. وهكذا وقع نخيل العراق ضحية الآفات التي تفتك بالقطاعات الاقتصادية الأخرى من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات وتعليم وصحة ومصارف، ربما باستثناء النفط.
وفي محاولة لتسليط الضوء على العقبات التي اعترضت محاولات تطوير زراعة النخيل وتصنيع التمور التقت اذاعة العراق الحر رئيس لجنة الزراعة النيابية فراس التميمي الذي كان صريحا في تحميله السياسة الاقتصادية مسؤولية هذا التدهور باغراق السوق بالتمور المستوردة دون ضوابط وبذلك إجهاض المشاريع الوطنية لتصنيع التمور وتعليبها وتسويقها مشيرا الى ان هذه السياسة ذاتها فشلت في حل مشاكل القطاع الزراعي بأكمله خلال الفترة الماضية.
والمفارقة ان ما ينتجه نخيل العراق من تمور تواجه في السوق منافسة تمور مستوردة بمواصفات متدنية رغم وجود قانون نافذ اسمه "قانون حماية المنتوج المحلي" الذي قال رئيس لجنة الزراعة النيابية فراس التميمي انه قانون موجود على الورق ولا تنفذه الجهات ذات العلاقة سواء أكانت سلطات كمركية أو بيئية أو حتى حدودية.
واستعرض التميمي الضربات التي تتلقاها النخلة العراقية في الوقت الحاضر بما في ذلك تجريف بساتين كاملة في محافظات بغداد وكربلاء وديالى مثلا وغياب الدعم للمزارعين الذين لم يعودوا يرون جدوى في إيصال منتوجهم للسوق دون ان يجدوا من يشتريه وتلكؤ الادارات المحلية في تطبيق القرارات التي تعاقب كل من يستهدف النخيل والأحزمة الخضراء بأعمال مخالفة مثل التجريف.
عضو مجلس النواب عن محافظة ديالى غيداء كَمبَش رأت ان حلقات متداخلة تتضافر لعرقلة النهوض بزراعة النخيل موضحة ان تشريع القوانين التي تدعم المزارعين يصطدم بعدم تنفيذها ، والتقشف يحول دون تخصيص الأموال اللازمة لمساعدة المزارعين في حين ان الارهاب يعيق تقديم الخدمات اليهم ، وتردي مستوى الخدمات بدوره لا يساعدهم على اصلاح الأضرار التي تعرضت اليها بساتينهم وهكذا تدور هذه الحلقة الشيطانية لغير صالح النخلة وزارعها.
وحذرت النائبة كمبش من حدوث اعمال تجريف لبساتين النخيل بدافع الانتقام في محافظة ديالى على وجه التحديد قائلة ان مرتكبيها يتذرعون بوجود داعش في هذه المزارع.
وأكدت عضو مجلس النواب عن ديالى ان من أكبر الأخطار التي تهدد زراعة النخيل والمحاصيل الأخرى في المحافظة هي هجرة المزارعين بسبب الارهاب اولا وغياب الدعم لمكافحة الآفات الزراعية واصفة وضع زراعة الحمضيات والنخيل في ديالى بـ"المزري جدا".
وقالت النائبة كمبش ان القوانين التي تحمي المزارع والنخيل موجودة ولكن العبرة في التطبيق وبالتالي فان تشريع مزيد من القوانين لن يحل المشكلة.
عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة فاطمة الزركاني تحدثت عما اصاب نخيل المحافظة قائلة ان المنطقة الممتدة من ابو الخصيب الى الفاو كانت مأهولة بملايين النخيل ، وضفاف شط العرب كانت غابات من النخيل قبل ان تصبح خطوطا أمامية وهدفا للمدافع خلال الحرب مع ايران واقترحت احياء هذه البساتين باستخدام اساليب حديثة بينها زراعة الانسجة.
ودعت الزركاني الى اعتماد استراتيجية جديدة في ظل الضائقة المالية التي يمر بها العراق ، هدفها تطوير الزراعة لتكون القطاع الرئيسي في تكوين الدخل الوطني قائلة ان سياسات النظام السابق هي المسؤولة اساسا عن تردي احوال النخيل في البصرة بصفة خاصة وفي العراق عموما.
واعتبرت عضو مجلس النواب عن البصرة فاطمة الزركاني ان الأزمة المالية التي ألمت بالعراق من جراء هبوط اسعار النفط ، درس فتح العيون على ان ربط الاقتصاد الوطني بقطاع واحد هو النفط طريق مسدود ولا بد من تطوير القطاعات الأخرى ، لا سيما الزراعة واصفة ما تكبده العراق من خسائر بسبب انخفاض عائداته النفطية بأنه "رب ضارة نافعة".
واضافت الزركاني ان النخلة مخلوق كالانسان الذي يحتاج في مراحل حياته الى عناية ورعاية لكي ينمو وينضج ويسهم بقسطه في خدمة المجتمع.
تقول منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة ان النخلة شجرة تتسم بميزة زراعية وبيئية مهمة الى جانب أهميتها الاقتصادية محليا او دوليا. فهي لا تمثل مصدر غذاء غني بالطاقة يمكن تخزينُه ونقلُه عبر مسافات طويلة فحسب بل ومصدر ظل وحماية من الرياح الصحراوية وعامل توازن بيئي واقتصادي واجتماعي ايضا.
مزيد من التفاصيل في الملف الصوتي الذي ساهم في اعداده مراسل اذاعة العراق الحر أياد الملاح.