منذ زمن بعيد، اعتادت معظم العائلات العراقية بمختلف انتماءاتها الطائفية والمذهبية على اللقاء في أول يوم أحد من شهر شعبان في كل عام لاحياء طقوس "ليلة زكريا".
ويرتبط هذا التقليد الاجتماعي بما توارثته النسوة اللاتي لم ينجبن او لم يرزقن بذرية من الذكور، من شعائر مستقة عن قصة النبي زكريا حين استجاب الله لدعائه ورزقه طفلاً من زوجته العاقر وهو في التسعين من العمر، ليعطي التواصل مع اقامة شعائر تلك الليلة، أملاً لهن في الحصول على المراد.
وتقول الحاجة ام ياسر ان "لهذه المناسبة خصوصية مميزة في حياة النساء المتزوجات، فهي تبعث فيهن الامل لتحصيل الرزق بالاولاد"، مشيرة الى ان "الاستعدادات لاقامة هذه الفعالية الشعبية تبدأ في وقت مبكر قبل موعد المناسبة، حين تتوجه النسوة نحو الاسواق لشراء حاجات (صينية زكريا) من البقلاوة والفستق والبندق وقمر الدين والحلقوم والكيك وغيرها من الاطعمة".
وقبل ان يحين وقت المغرب بقليل تنصب في البيوت صينية زكريا المليئة باطباق الحلويات وصحون المكسرات والمعجنات تتوسطها عيدان البخور والشموع واغصان شجر الاس والاباريق والاواعي الفخارية وغيرها.. وتذكر أم سارة ان هذه المعتقدات جزء من
قناعاتها، مضيفة: "إنها مجرّبة، وانا شخصياً لم ارزق باطفال لفترة طويلة بعد زواجي، ونصحتني امي ان التزم بنذور ليلة زكريا، وفعلا في العام التالي استجاب الله لدعائي ورزقت بطفلة وعليه لابد وان اتواصل مع ذلك التقليد في كل عام".
ومن دون الرجوع الى مفكرة او تقويم تتكل معظم النساء على ذاكرتهن النشطة في التنبه لموعد ليلة زكريا، وتلفت ام يوسف الى ان ليلة زكريا أصبحت تمثل فرصة للتلاقي والانبساط والانشراح، فضلاً عن بركة نذورها، مضيفة: "نحن نحرص على ديمومتها واحياء طقوسها وهي تشكل ذاكرتنا الجمعيةمضيفة صرنا نتلهف لموعد ليلة زكريا لنلتقي الاهل والاصدقاء والمعارف وتبادل اطراف الحديث والامنيات والاستمتاع والتلذذ بتلك الجلسات الاجتماعية التي اصبحت نادرة هذه الايام".
وتستبق العديد من النساء موعد احياء ليلة زكريا بتبضع احتياجاتهن من الاسواق المحلية التي تشهد حركة طلب لافتة في مثل تلك الايام من السنة على شراء مستلزمات الزينة والطعام، ويفيد نوار الحمداني، صاحب احد متاجر المواد الغذائية في حي
العدل ببغداد بان ابواب رزقه تنتعش في تلك المناسبة، مضيفاً: "تسجل الاسواق اقبالاً لافتاً من العائلات المتواصلة مع مراسيم ليلة زكريا وهي تسجل طلبا ملحوظا على التبضع باحتياجات صينية زكريا المتعارف عليها، ومنها الطبول والدفوف التي تهدى للاطفال في تلك الليلة".
وفيما الاولاد الصغار يضربون على طبولهم ودفوفهم تنشغل القريبات والجارات والصديقات بتبادل امنيات البركة والخير في ليلة زكريا التي صارت فرصة للتلاقي وادامة علاقات المحبة والود وكانها تجمع العراقيين على مائدة واحدة في بيت رحب. ويشير الباحث الاجتماعي الدكتور محمد عبدالحسن الى وجود معززات وايجابيات اجتماعية باتجاه مظاهر الاحتفال بعيد زكريا، بما فيه من لمسة دينية واجتماعية فلكلورية وبعد تاريخي، وكيف تمكنت المناسبة من لملمة شتات المجتمع وجعلت اغلب مكوناته تتقاسم مراسم احياء تلك الليلة من دون موعد، بعد ان فرقتهم الحروب والسياسة.
ويبيّن عبدالحسن ان صورة الشخصية الانسانية المحببة والمقبولة والمتسالم عليها للنبي زكريا في جميع الافكار والثقافات والاديان، جعلته مُستقطباً للمريدين على اختلاف انتماءاتهم العرقية والاثنية بحسب الموروث التاريخي، مضيفاً ان المجتمع العراقي بحاجة التي تطوير بعض المناسبات التي تعزز من الوحدة الاجتماعية والتلاقي، وتنبذ التطرف والكراهية والتعصب، ومنها احياء ذكرى "ليلة زكريا".