من مفارقات الوضع في العراق ان اجتياح تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" مناطق واسعة من العراق أعطى دفعة قوية لملف المصالحة الوطنية بعد سنوات من الجهود التي أتت ثمارها متواضعة في هذا المجال. وشهدت الفترة الممتدة منذ تولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء تحركات واتصالات مكثفة لتفعيل عملية المصالحة الوطنية. وتبدى الاهتمام الذي يوليه القادة السياسيون بهذا الملف في اناطته برئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الجمهورية اياد علاوي.
ودخلت الأمم المتحدة على الخط بقوة من خلال الجولات والحوارات التي اجراها مبعوثها الخاص في اربيل وبغداد وكربلاء. كما شهدت هذه الفترة عقد مؤتمر وطني للحوار بين الأديان والمذاهب القى فيه رئيس بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق نيكولاي ملادينوف كلمة دعا فيها القادة العراقيين الى التعاطي مع أجندة المصالحة والشروع بها.
واستهل رئيس الجمهورية فؤاد معصوم عام 2015 بالاجتماع مع نائبيه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ورئيس مجلس النواب السابق اسامة النجيفي لبحث ملف المصالحة تحديدا. ولكن هذه التحركات والجهود الرامية الى تفعيل المصالحة تعثرت بعد اغتيال قاسم سويدان الجنابي في شباط الماضي. وكان من تداعيات الحادث ان الكتل السنية اعلنت مقاطعتها جلسات البرلمان. وقالت المفوضية العليا لحقوق الانسان ان مقتل الشيخ سويدان ونجله وثمانية من افراد حمايته "انتكاسة في جهود المصالحة الوطنية".
ولاحظ مراقبون ان جهود المصالحة ستبقى مكشوفة لمثل هذه الانتكاسات والهزات ما دامت تتركز على المستوى الفوقي ولا تقترن بالمصالحة على المستوى المجتمعي الذي لعله المستوى الأهم والأجدى لإرساء أي مصالحة وطنية على أسس من الديمومة والثبات. فان انتهاكات الحقبة الدكتاتورية طالت شرائح واسعة وضحايا القمع والتنكيل ما زالوا ينتظرون انصافهم. وانضمت اليهم أعداد كبيرة من الضحايا في السنوات التي اعقبت التغيير. وما لم تتحقق المصالحة من القاعدة فما فوق فان أي تفاهمات واتفاقات وصيغ يتوصل اليها القادة السياسيون فيما بينهم ستبقى هشة عرجاء ومعرضة للانتكاسات.
اذاعة العراق الحر التقت عضو مجلس النواب عن التحالف الوطني ميثاق ابراهيم التي رأت ان من غير الممكن الحديث عن مصالحة حقيقية دون أن تُعطى حقوق اعداد كبيرة من ضحايا التنكيل والمقابر الجماعية والمعتقلين السياسيين بل وعائلات مواطنين قُتلوا ولم يُسجلوا في مؤسسة الشهداء.
ودعت النائبة ميثاق ابراهيم الى استخدام كل الآليات القانونية وأشكال التعويض قائلة ان ضمان حقوق المتضررين شرط لازم للمصالحة المنشودة.
عضو مجلس النواب عن اتحاد القوى الوطنية محمد الكربولي رأى ان اشاعة اجواء ديمقراطية تحت قبة البرلمان بين ممثلي الشعب من خلال الالتزام بالاتفاق السياسي الذي توصلت اليه الكتل السياسية تُسهم في توفير أرضية مناسبة للمصالحة التي على الحكومة ان تنتبه الى انهاتقتصر على من يؤمنون بالعملية السياسية وحدهم.
وأوضح النائب الكربولي ان ما تحقق حتى الآن ليس مصالحة بل ترطيب أجواء ، على حد تعبيره ، لأن المصالحة تكون بين الحكومة والشعب من خلال إنصاف من تضرروا سابقا ويتضررون في الأوضاع الحالية ايضا.
عضو مجلس النواب عن ائتلاف دولة القانون عالية نصيف أشارت الى ان ترديد مفردة المصالحة دون نتائج ملموسة اصبح اسطوانة مملة وان الأولوية الآن هي لمواجهة التحدي المتمثل بتحقيق التلاحم الوطني ضد خطر داعش وبعد ذلك يمكن ان يجلس الفرقاء لبحث المصالحة والاصلاح سواء في السياسة أو الاقتصاد.
واعربت النائبة عالية نصيف عن اقتناعها بأن غالبية العراقيين يتفقون معها في القول بأن المهمة الملحة هي مواجهة داعش وما يُطلق من اصوات ناشزة خارج هذا التوجه تحاول تعكير وحدة العراقيين على هذا الهدف.
رئيسة برنامج العدالة الانتقالية في العراق نهى درويش أوضحت ان المصالحة التي يكثر الحديث عنها الآن هي آلية واحدة فقط من آليات العدالة الانتقالية ولا يمكن فصلها عن العدالة الاجتماعية أو العدالة الاقتصادية مضيفة ان هذا المفهوم اصطدم بعقبات متعددة في العراق لحداثته وعدم فهمه وبالتالي صعوبة نشره وتطبيقه لا سيما وان السياسيين والناشطين أنفسهم ليس لديهم فكرة متكاملة عنه حين يطالبون بالعدالة دون ان يعرفوا أي عدالة على وجه التحديد.
واعتبرت درويش ان من أكبر التحديات التي واجهت المصالحة بوصفها احدى آليات العدالة الانتقالية الصراعات السياسية التي انتقلت الى المجتمع حيث اتخذت اشكالا من التمييز والتحزب تفاقمت الى نزاعات طائفية واعمال عنف وبدلا من ان تقوم الديمقراطية على التعايش الأهلي والسلام المدني والمصالحة فانها تحاول الآن شق طريقها في غمرة أزمات سياسية ومجتمعية وعلاقات تناحرية أدت الى ما آل اليه العراق اليوم.
وقالت رئيسة برنامج العدالة الانتقالية ان الحاجة الى المصالحة المجتمعية تنشأ عندما تتحول الصراعات الى نزاعات تمييزية بين مكونات مختلفة من المجتمع على اساس الطائفة أو القومية او المذهب في حين ان المصالحة السياسية غالبا ما تعتمد على الحوار والتوافقات التي يمكن ان تساعد في التوصل اليها اطراف أخرى قد تكون محلية أو خارجية.
واعربت درويش عن اتفاقها مع الرأي القائل بان المصالحة الوطنية تبدأ بالمصالحة المجتمعية أولا ثم المصالحة السياسية مستعرضة آليات تحقيق هذه المصالحة التي تنطلق من قاعدة الهرم الاجتماعي لا سيما "جبر الضرر" وآليات محاسبة مرتكبي الانتهاكات وآليات التعويض المعنوي والمادي وآليات الاعتراف والاعتذار والذاكرة الجمعية المشتركة وآليات لفتح الجراح ومعالجة الماضي وضمان عدم تكراره وآليات الدمج المجتمعي للضحايا وهم كثيرون في الحالة العراقية الى جانب آليات عامة للمصالحة الشاملة برسم استراتيجية متكاملة تتفق عليها الكتل السياسية.
ونوهت درويش بدور الأمم المتحدة وخاصة مكتب حقوق الانسان لتحقيق المصالحة المجتمعية وبمساهمة الناشطين العراقيين الذين اقترحوا آليات محددة لكل منطقة بما يتناسب مع عدد ضحاياها مشددة على ان هذا المشروع الكبير يحتاج الى دعم سياسي من الجميع ولكنها اضافت ان هذا العمل توقف عمليا بعد سيطرة داعش على مناطق من العراق وظهور مشكلة النازحين الذين انصبت الجهود على محاولة التخفيف من معاناتهم.
كانت مؤسسات العدالة الانتقالية تركز جهودها على ضحايا البطش والتنكيل في زمن النظام السابق ولكن أعداد الضحايا تنامت بعد عام 2003 وظهرت الآن تحديات جديدة في المناطق المحررة من داعش التي تحتاج الى آليات عدالة انتقالية ، بما في ذلك لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات فيها وإعادة بناء المجتمع باعتمادات آليات مصالحة محلية ناجعة، كما اوضحت درويش.
ودعت درويش الى تسليم ملف المصالحة المجتمعية للجان تشرف عليها الأمم المتحدة او منظمات دولية بعيدا عن نفوذ الأحزاب السياسية الجاثم على هذا الملف اليوم مع تدريب الكوادر اللازمة لا سيما وان الفترة الممتدة منذ عام 2003 وحتى الآن لم تشهد جهودا جادة في هذا المجال وكأننا كل مرة نبدأ من الصفر ، بحسب تعبيرها.
وشددت رئيسة برنامج العدالة الانتقالية في العراق نهى درويش على ضرورة اعتماد استراتيجية شاملة للمصالحة الوطنية لا سيما وان النتائج التي حققتها هيئة المصالحة بعد صرف اموال كبيرة لا يُعتد بها كما تدل حالة الانقسامات والصراعات التي دخلها المجتمع.
كان لدى الأمم المتحدة مشروع لتحقيق المصالحة الوطنية بوصفها احد اركان العدالة الانتقالية ولكن المشروع نُسف مع تفجير مقر المنظمة الدولية في بغداد ومقتل سبعة عشر شخصا على الأقل بينهم رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق البرازيلي سيرجيو فييرا دي ميللو في صيف 2003.
مزيد من التفاصيل في الملف الصوتي الذي اعده مراسل اذاعة العراق الحر أياد الملاح.