فيما تواصل القواتُ الحكومية بمساندة الحشد الشعبي ومقاتلي العشائر هجومها على مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في محافظة صلاح الدين ومناطق أخرى، يتجدد الحديثُ عن تأثير الخطابات والتصريحات السياسية في مثل هذه الأجواء، ودورها في تعزيز الصفوف لدعم قضايا ذات همٍ وطني أو عمق أمنى مجتمعي، والتحذير من تصريحات أخرى، اعتاد مطلقوها، على افتعال الازمات وتأجيج التوترات والمشاعر الفئوية والطائفية لتأمين تخندق بذاتالهويات وضح بشكل لافت خلال السنوات الاخيرة.
تصريحات موتورة بدون رقيب أو خشية
يحذر أستاذ العلوم السياسية سعدي العزاوي من انفلات تصريحات لا تعتمد على حقائق وأدلة مما تنعكس سلبا على المتلقي وبالتالي عموم المجتمع الذي يواجه صعوبات اقتصادية وامنية واضحة.
وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي أشار في كلمته امام مجلس النواب يوم الاثنين 2 اذار الى خطورة التصريحات غير المسؤولة التي يطلقها البعض من الساسة و أثرها السلبي على حياة العراقيين وأمنهم، داعيا السياسيين الى الاعتدال وعدم صب الزيت على النار والابتعاد عن التحريض وان يكون خطابهم مسؤولا. وقال العبادي في كلمته ان (الرد الحقيقي على الجماعات الارهابية تكمن في توحيد الكلمة والموقف)، ملفتا الى ضرورة احترام القانون والعدالة وعدم الانصياع وراء نزعة الانتقام والتصفيات العشائرية، محذرا من أفعال تمثل اجندات خارجية تحاول الايقاع بين العراقيين وانهم ليسوا اقل خطرا من الارهاب.
ويؤشر التساؤل المُر الذي طرحه العبادي في كلمته عمن يقف وراء التصريحات المؤجِجة،حقيقة سعي اطراف وشخصيات من مختلف الكتل والألوان تدفع الى تأزيم الأوضاع والتشكيك بالآخرين وتوتر الأجواء، الى ذلك يرىعضو التحالف الوطني فادي الشمري ضرورة ضبط مثل تلك التصريحات في منابر الإعلام ومحاسبة أصحابها.
من جانبه ارجع المحلل السياسي واثق الهاشمي هذا الامر الى تدني الثقافة السياسيةوضعف الشعور بالمسؤولية وعدم نضج تجربة البعض من المسؤولين والسياسيين العراقيين، واستسهال إطلاق الكلام على عواهنه، متفقا مع ضرورة تسمية متحدثين رسميين للقوى والكتل السياسية حتى لا تتقاطع تصريحات أعضائها في هذه المناسبة او تلك. مشبها منصة الإعلام في مجلس النواب، بسوق عكاظ حين يقف بعضهم أحيانا ويطلق تصريحات وخطابات تؤدي الى توتر الأجواء، واحتقان المواقف.
الإعلام ليس بعيدا عن المسؤولية
ومع اعترافها بوجود من يتخصص في اثارة الفتنة وتوتير الأجواء، تلقي القيادية في اتحاد القوى وحدة الجميلي بجزء من المسؤولية على وسائل الاعلام التي "تعتاش" على تأليب الأجواء من خلال استضافة شخصيات "موتورة" لكسب نسبة مشاهدة أكبر، وتنبه الجميلي في حديثها لإذاعة العراق الحر الى ان المسؤولية مشتركة للجميع، وبضمنهم الإعلام، في حماية السلم الأهلي وأمن المجتمع.
وماذا بشأن إعلام الدولة أو ما يعتبره البعض اعلاما رسميا للحكومة؟ يأخذ عليه كثيرون أنه يهتم بتلبية رغبة الحكومة والتوجه السياسي والفكري الذي يقف وراءها، أو حزب الحكومة بحسب توصيف أستاذ العلوم السياسية سعدي العزاوي، وبالتالي فإن هذا الاعلام لم ينجح دائما بكسب ثقة جميع متابعيه.
"في المطبخ العراقي تتوفر النارُ والزيت، وهناك موتورون يتدافعون منذ 2003 عام على تأجيج النار"، بحسب تشبيه الاعلامي هادي جلو الذي يعتقد ان العملية السياسية في العراق التي اعتمدت التصنيف العرقي والديني والطائفي اسهمت في شيوع لغة الاتهام والتشكي من المظلومية والإقصاء وربما التشفي بين هذه الفئة او تلك، وهذا، بحسب جلو، يجد هوى لدى نسبة غير قليلة من الجمهور بمختلف عناوينهم، عندما يطلقه أصحاب التصريحات والخطابات المثيرة للجدل.
وفي الميدان يلاحظ المراسل الصحفي مهدي العبودي ان شخصيات سياسية أصبحت تمثل رموزا للتطرف واشعال الازمات في المشهد اليومي من خلال تصريحاتهم النارية التي لا تستند في الغالب الى حقائق ووقائع بل تمثل اصطيادا بالماء العكر تهدف في كثير من الأحيان الى فتح جبهات مع "الآخر" تنعش المشروع الطائفي، وبقدر ما تمثل مادة مثيرة صحفيا، الا انها تكشف عن تذبذب مطلقيها، وعدم توازن تصريحاتهم بخصوص هذه القضية أو تلك.
ومن يتولى محاسبتهم على تصريحاتهم، وكيف؟
الى ذلك ينبه اعلاميون وناشطون الى الحاجة لوسائل لجَم التصريحات المنفلتة من مسؤولين وسياسيين يرمون الكلام على عواهنه، وذلك بمتابعة أصدائه، ومساءلة مُطلقيه، ومحاسبتهم حتى ولو بعد حين، والتحقيق في مصداقية ما ذهبوا اليه، وحقيقة ما أدّعوه، فضلا عن الوعود التي أطلقوها بدون التزام لجمهورهم. ويلاحظ الكاتب والإعلامي عارف الساعدي أن صدى هذا التوجه بدأ يتردد على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها الفيسبوك على وجه الخصوص.
وتثير الدعوة الى التحقيق في تصريحات سابقة لشخصيات سياسية وحكومية وما تسببت به من أزمات، وتقييم الضرر الذي انطوت عليه من الادعاء او الأكاذيب او التهديد، تثير تجاوبا كبيرا لدى بعض المتابعين، وبهذا الشأن يطرح البعض فكرة مقاضاة المسؤول والسياسي عن تصريحاته ووعوده الفارغة في حال تسببها بالضرر لمواطنيه، وربما يوفر القانون العراقي مجالا في هذا المجال.
ولا ينكر المتابع أن المواطن العراقي العادي على العموم غير محصن سياسيا، فجُل العراقيين لم يمارسوا العمل الحزبي الحر منذ عقود، لذا فان اصطفافهم تحت عناوين القومية والدين والطائفة جاء نتيجة مفهومة لهيمنة الفكر الشمولي لعقود سبقت تغيير النظام عام 2003.
الكاتب والإعلامي عارف الساعدي شكك من جانبه في وعي بعض السياسيين العراقيين، واصفا بعضهم بعدم الشعور بالمسؤولية عند إطلاق التصريحات النارية، التي تسببت في تداعيات مخربة في بعض الأحيان، واضرارا بالسلم الأهلي بدون تردد أو خشية من محاسبة. ولاحظ الساعدي، خلال مقابلة هاتفية مع إذاعة العراق الحر (يمكن الاستماع اليها في الملف الصوتي المرفق)، أن موسم اطلاق الوعود والتصريحات النارية غالباً ما يتزامن مع مواعيد الانتخابات، والاحداث الحاسمة، ومنها المواجهة العسكرية الأخيرة مع تنظيم "داعش"، حيث كشف الواقع العراقي عن أن مغازلة الميول الفئوية والطائفية لها الحظ الأوفر لدى نسبة غير قليلة من الجمهور.
الساعدي استحضر خلال المقابلة ايضا، ردود الافعال التي كانت تتركها بعض خطب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في أيام الأربعاء، بحيث اثارت أجواء متوترة أضرت كثيرا بالمشهد السياسي والأمني حينذاك.
وليس بعيدا عن موضوع ملف هذا اليوم، قد نتناول لاحقاً حساسية وخطورة تصريحات يطلقها بعض السياسيين والعسكريين بدون تكليف رسمي، تكشف جوانب من الخطط العسكرية والأمنية والموقف في مسرح العمليات بمواجهة مسلحي "داعش"، مما يعرض سير العمليات وعنصر المفاجأة فيها الى الكشف بما يضر بأهدافها عموما.
شارك في الملف الصوتي مراسل إذاعة العراق الحر في بغداد رامي احمد.