بيروت
خطابان خلال يومين لكل من رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله شكَّلا خارطة طريق سياسية للمرحلة المقبلة. فالرجلان هما الأقوى في موازين القوى اللبنانية، ويمكن لتوافقهما أو تصارعهما أن يطبع المشهد اللبناني بقوة.
في كانون الثاني من العام 2011 أسقط "حزب الله" حكومة سعد الحريري باستقالة 11 وزيراً له ولحلفائه يشكلون ما اصطلح على تسميته "الثلث المعطل"، وهو ما يؤدي الى اعتبار الحكومة مستقيلة حسب الدستور اللبناني. وأراد الحزب يومذاك إحكام سيطرته على السلطة بعدما فرض نفسه بقوة السلاح في بيروت في العام 2008. ثم تشكلت حكومة برئاسة نجيب ميقاتي لم يكن فريق 14 آذار ممثَّلاً فيها. وبعد تلك التطورات وصلت معلومات الى الحريري تفيد بأنه معرض للاغتيال، فغادر لبنان.
لم يعد الحريري إلى لبنان طوال تلك المدة إلا في زيارة قصيرة قبل أشهر لمواكبة الهبة السعودية إلى الجيش اللبناني بقيمة 3 مليارات دولار وانتخاب مفتٍ للجمهورية اللبنانية، ثم السبت الماضي في 14 شباط للمشاركة في الذكرى العاشرة لاغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.
ولكن طوال غيابه، حصلت تطورات عديدة. تنامى التطرف السنيّ، وصعدت تيارات مثل التيار الذي تزعمه الشيخ أحمد الأسير في صيدا، الذي فرّ لاحقاً بعد عملية للجيش اللبناني، كما توتر الوضع الأمني في مدينة طرابلس، ووقعت تفجيرات انتحارية في الضاحية الجنوبية والبقاع حيث نفوذ "حزب الله"، ووصل تنظيم داعش الى جرود السلسلة الشرقية لجبال لبنان. وبمعنى آخر، ارتفع التشنج السنيّ – الشيعيّ، وأصبحت هناك حاجة لدور يلعبه "الاعتدال السني" الذي يمثله تيار الحريري في شكل خاص.
في الذكرى العاشرة لإغتيال رفيق الحريري، أعاد الحريري الإبن تأكيد جملة الثوابت التي يتمسك بها فريق 14 آذار، إذ جدّد الإصرار على أن خلاص لبنان يكون بالنأي به عن حرائق الشرق الأوسط، ولم يمنح براءة ذمة في موضوع حمل السلاح والتدخل العسكري لـ"حزب الله" في سوريا. وحذّر من "تفريخ الميليشيات" وفق النموذج العراقي.
ولكن الحريري أكد أيضاً أن الحوار مع "حزب الله" ليس "ترفاً سياسياً"، بل "حاجة لاستيعاب الاحتقان السياسي". وفتح ملف التطرُّف على مصراعيه، في وقت يستعين الجميع بـ"الحريرية" لمواجهة غول التطرُّف والارهاب. ومن هنا قوله: "أنا لست معتدلاً. أنا متطرف لحلم رفيق الحريري، للبنان... الدولة المدنية، دولة القانون، ومتطرِّف لقوة الاعتدال التي يمثلها تيار المستقبل". ولهذا الكلام على التطرُّف والدولة المدنية، من جانب قيادي سنّي بحجم الحريري، له مغزاه محلياً وإقليمياً، في ظل فورة التشدُّد السنّي.
ويقول مستشار الرئيس سعد الحريري الدكتور داود الصايغ لموقع "العراق الحر" إن "الرئيس الحريري أبدى منذ البداية وفي خطابه في رمضان حرصه على الحوار، وأطلق مبادرة في هذا المجال. وأتاه الردّ بالإيجاب من قبل السيد نصر الله". وأكد الصايغ أن "الحوار الدائر حالياً هو ربط نزاع من دون الدخول في المواضيع الخلافية، وهو يهدف الى تخفيف التوتر المذهبي ومحاولة التوصل إلى رئيس توافقي".
نصر الله يلاقي الحريري
وفي المقلب الآخر، وبعد يومين على كلمة الحريري، أطلق نصر الله خطاباً وُصف بأنه غير تصعيدي. وعلى غرار ما فعل الحريري، أكد الأمين العام لـ"حزب الله" في ذكرى "القادة الشهداء" تمسكه بـ"ثوابته"، ودافع عن سياسة التدخل في سوريا، معتبراً أن "لبنان متأثر بما يجري في المنطقة أكثر من أي وقت مضى، وأن مصير سوريا ولبنان والعراق والاردن وغيرها من البلدان يصنع في المنطقة."
كذلك تطرق الى موضوع الارهاب، ودعا الى وضع استراتيجية وطنية لمكافحته. وحذر من أنه "عندما يذوب الثلج على السلسلة الشرقية، هناك "داعش" و"النصرة"، وهناك استحقاق على الدولة ان تحزم أمرها وتقرِّر كيفية التعامل معه.
لكن نصر الله، في المقابل، أكد دعمه للحكومة ومواصلة عملها، ولمعاودة الجهد الداخلي في موضوع الاستحقاق الرئاسي، وشدد على مواصلة الحوار مع "تيار المستقبل".
ويرى الدكتور الصايغ في حديثه إلى موقعنا أن هناك "تصميماً من قبل السيد نصر الله على الاستمرار في الحوار وسط العواصف في الشرق الأوسط، وهناك محاولة لالتقاء الإرادات من أجل حماية لبنان ومؤسساته. والحريري يمدّ يده على رغم إدانته الواضحة للتدخل في سوريا وتوزيع السلاح".
إذاً، إنه زمن السقوف الكلامية العالية، حيث الطرفان القويان السنّي والشيعي يطلقان المواقف التي تؤكد عدم التراجع من جهة، والإستعداد للحوار وإرضاء الجماهير من جهة أخرى.
ووفق العديد من المراقبين، يعتبر ذلك إثباتاً لوجود رغبة داخلية، بتشجيع دولي وإقليمي، على إبقاء لبنان ضمن الحدّ الأدنى من الإستقرار، على رغم التوترات في مناطق مختلفة، وعدم السماح بإنتقال الشرارة المذهبية إليه من الحرب السورية.