يتصدر المواضيعَ التي يناقشها مسؤولون عراقيون مع ممثلي مختلف الدول موضوعُ تسليح الجيش، وامداد العراق بالأسلحة والذخائر والتقنيات، التي يحتاجها في مواجهته للمتشددين وخصوصا مسلحي (داعش) الذين استولوا على مساحات شاسعة من ارض العراق.
وتثير الحاجة الملحّة للحصول على أسلحة ثقيلة ومتوسطة وحتى خفيفة وذخائر فضلا عن تقنيات عسكرية حديثة، ذكرياتٍ عن الصناعة العسكرية في العراق، التي يعود البدء بوضع أسسها الى بداية سبعينات القرن العشرين،عندما شكلت الحكومة حينذاك هيئة من كفاءات مخطِطة علمية لتوطين صناعة عسكرية متطورة.
التصنيع العسكري بين الصعود والضمور
تسنى للعراق في ما بعد امتلاك قاعدة عملاقة للصناعة العسكرية من خلال مئات المنشآت والمعامل والورش التي ضمتها "هيئة التصنيع العسكري"، وجرى تدريب وتأهيل مئات الآف العمال والفنيين والمهندسين في هذا القطاع، ودفعت احتياجات الحرب مع إيران (1980-1988) الى إدامة تلك المنشآت وتطويرها وتنويع منتجاتها من الأسلحة والذخائر المختلفة، وقد ابتلع هذا القطاع نسبة كبيرة من موارد العراق المالية حينذاك تزامناً مع أوار الحرب المشتعلة على جبهات القتال وتأثيراتها في الداخل.
وقد أدت حرب التحالف الدولي التي أخرجت الجيش العراقي من الكويت عام 1991، الى تدمير نسبة كبيرة من منشآت التصنيع العسكري وبنيته التحتية، فيما تعرض المتبقي منها خلال فترة العقوبات الاقتصادية في التسعينات الى التفكيك والإنهاء من خلال عمل اللجنة الدولية المكلفة أمميا بالتفتيش عن قدرات العراق في انتاج الأسلحة المحرّمة، وأتى السلبُ والنهب والتخريب على ما تبقى من بُنية تحتية لتلك التشكيلات خلال وبعد الحرب التي أسقطت النظام السابق في نيسان عام 2003.
يبدو السؤال عن إمكانية استعادة جزء من قدرات التصنيع العسكري مُلحا وموضوعيا اليوم، مع تزايد الحاجة الى التسليح وتعزيز قدرات الجيش العراقي والقوات الامنية وفصائل الحشد الشعبي وأبناء العشائر المتعاونة مع الحكومة في مقارعة مقاتلي داعش.
تفترض عضوة اللجنة الاقتصادية البرلمانية نورا البجاري أن دولا إقليمية وكبرى لا ترغب بامتلاك العراق ناصية الصناعة عموما والعسكرية منها على وجه الخصوص، بل تعمل على الإبقاء عليه مستهلِكا مفرِطا للبضائع وغير منتج.
ولاحظت البجاري في حديثها لإذاعة العراق الحر ان بعض العراقيين يقرن التصنيع العسكري بالنظام السابق بدون اعتبارٍ لأهميته في تعزيز سيادة البلد واستقلال قراره العسكري والأمني.
الاستفادة من خبرات التصنيع العسكري
قضى علي نوروز ثمان سنوات عاملا فنيا في احدى تشكيلات هيئة التصنيع العسكري، ويعمل حاليا في وزارة العلوم والتكنولوجيا، وإذ يستعيد الخبرات التي حصل عليها وأمثاله على يد خبراء ومهندسين عراقيين يرى في مقابلة مع إذاعة العراق الحر ان النظرة القاصرة لهذا القطاع بربطه بفكرة الخدمة النظام السابق اضرت كثيرا به وبقاعدته المادية والبشرية الكفوءة.
يمثل علي نوروز واحداً من عشرات الالاف من العاملين في مؤسسات التصنيع العسكري الذين سُرحوا بعد 2003 وبحث الكثير منهم عن فرص عمل لإدامة حياته وسد احتياجاته، فاضطر الى تغيير تخصصه او مغادرة البلاد، برغم اعتباره للخبرة والدور الذي أداه في بناء تلك الهيئة التصنيعية الكبيرة.
الى ذلك يتوقف المحلل عباس الغالبي عند القاعدة العريضة للصناعة العسكرية التي نشطتها الحروب التي خاضها العراق في عقود مضت، ويلفت الغالبي الى جيش المنتسبين المؤهلين من مهندسي وفنيي وعمال التصنيع العسكري، وعشرات المعامل والمنشآت التي كانت تنتج وتطور أصنافا وانواعا مختلفة من التجهيزات العسكرية والتي توقفت نهائيا عن الإنتاج بعد عام 2003 بالتزامن مع قرار حل هيئة التصنيع العسكري. تظافرت أسبابٌ وعوامل عديدة على إعاقة الصناعة العراقية وخصوصا العسكرية منها بعد عام 2003، بعضها سياسي دولي وآخر محلي متسرع، ويرى رئيس مركز رجال الأعمال العراقي حميد العقابي في حديث لإذاعة العراق الحر أن من تلك الأسباب انتفاع العديد من عمليات استيراد المعدات والأسلحة والذخائر المطلوبة للقطاع العسكري لِما تنطوي عليه من فرص للفساد المالي والحصول على عمولات ورشى على حساب المواصفات المتدنية للتجهيزات.
أبو ركيبة: فرص ممكنة لتوطين الصناعة العسكرية
يربط كثيرون هيئة التصنيع العسكري برئيسها حسين كامل، المقرّب من الرئيس الأسبق صدام حسين، وقد لمع نجمه نتيجة ذلك خلال الثمانينات والتسعينات، لكن التاريخ يكشف عن أن التأسيس لتوطين الصناعة العسكرية في العراق يعود الى عام 1972 عندما كلفت الحكومة فريقا صغيرا من الكفاءات العلمية والهندسية والعسكرية لدراسة إمكانية انشاء صناعة عسكرية للأسلحة الخفيفة والمتوسطة والذخيرة المختلفة، وتأهيل كادر فني وهندسي للعمل في منشآت ومعامل بدأ العمل على تشييدها.
أثمرت الجهود بعد اثنتي عشرة سنة عن تشييد صناعة عسكرية متخصصة لإنتاج وتوفير احتياجات الجيش العراقي من أسلحة وذخائر مختلفة، أنتجتها عشرات المنشآت المتخصصة، فالأسلحة الخفيفة والمتوسطة مثل الرشاشات والبنادق المختلفة وعتادها في منشأة "اليرموك" المتطورة في منطقة أبو غريب، بينما انتجت منشأة "حطين" أنواعا متطورة من مدافع الهاون وذخائرها بعياراتالمختلفة. ولغاية التسعينات كان الانتاج الحربي العراقي متنوعا ومتطورا بشكل ملموس، وقد تكدس بعضه في مخازن الهيئة وغيرها.
وتمكنت المعامل حينذاك من تصنيع الصواريخ الطويلة المدى (أرض ـ ارض)، وشاركت كوادر الهيئة في برامج لتطوير منظومات لتلك الصواريخ من خلال التنسيق والتشاور مع بيوت الخبرة العالمية خصوصا في اوروبا وامريكا الجنوبية.
في مقابلة خاصة مع إذاعة العراق الحر كشف المدير العام السابق، وأحد المؤسسين للتصنيع العسكري، سعدي أبو ركيبه عن القدرات الصناعية التي تطورت بشكل متتالٍ منذ عام 1972 استنادا الى خطط وتعاقدات ونقل خبرات من حقول الصناعة العسكرية الدولية خلال ثلاثة عقود، بالترافق مع إعداد وتأهيل وتطوير قدرات جيش العاملين في هذا القطاع.
عند طرح السؤال المُلِح عن إمكانية إعادة الحياة لجوانب من التصنيع العسكري في عراق اليوم، يرد أبو ركيبة بالإيجاب مشروطا بخطوات وتمهيد، بما يؤهل للعراق سيادته على احتياجاته من السلاح المتنوع والعتاد خصوصا وهو يواجه قتالا شرسا مع التنظيمات الإرهابية ومنها داعش.
ويعتقد أبو ركيبه، خلال الحوار الذي يمكن الاستماع اليه في الملف الصوتي ادناه، أن الخبرات الفنية والعلمية التي توفرت لمهندسي و كوادر التصنيع العسكري العراقي يمكن الانتفاع منها اليوم في حال الحصول على تكنولوجيا صناعة الأسلحة التقليدية الخفيفة والمتوسطة من بعض الدول التي تملك هذه التكنولوجيا، والتي لم تعد محضورة من ناحية، وهي بالغة الاهمية للعراق اليوم في مواجهته للمجاميع المتشددة خصوصا تنظيم داعش.
شارك في الملف مراسل إذاعة العراق الحر في بغداد رامي احمد