أطلق التغيير الذي حدث في عام 2003 عملية سياسية حافلة بالمفارقات والسمات الفريدة، منها ان العراق لعله البلد الوحيد الذي تمارس المعارضة السياسية دورها فيه من مواقع السلطة. وبات من المألوف ان يسمع العراقيون انتقادات لاذعة يوجهها الى الحكومة نائب رئيسها أو وزير فيها. ومن السمات المميزة الأخرى للعملية السياسية ان القوانين لا تمر إلا بتوافق الكتل السياسية الرئيسية في البرلمان وليس على اساس أغلبية الأصوات كما هو متعارف عليه. وحين لا يكون التوافق ممكنا تحت قبة البرلمان ينزوي القادة السياسيون وراء ابواب مغلقة في مفاوضات معقدة للتوصل الى صفقات توافقية يخرجون بها على النواب للتصويت الذي يكون في الغالب على سلة من القرارات أو القوانين.
وما يُقال عن اصدار القوانين على مستوى السلطة التشريعية وصنع القرارات على مستوى السلطة التنفيذية يصح على الدستور ايضا.فالدستور ينص على تنفيذ المادة 140 لتسوية وضع كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها "في مدة اقصاها 31 كانون الأول 2007". وبعد مرور أكثر من ثماني سنوات على الموعد ما زالت هذه المادة تنتظر التنفيذ. كما ينص الدستور في المادة 65 على "انشاء مجلس تشريعي يُدعى مجلس الاتحاد الاتحاد الى جانب مجلس النواب يضم ممثلين عن الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم". وبعد مرور عشر سنوات ما زال البرلمان العراقي يعمل بمجلس واحد في حين ان المجلس الثاني قلما يرد ذكره رغم ان تشكيله لازم بنص دستوري.
ولعل المفارقة الأكبر حين يتعلق الأمر بالدستور ان من كتبوا قانون البلاد الأساسي الذي تنبثق منه سائر القوانين الأخرى اعترفوا فور الانتهاء من كتابته بأنه دستور ناقص يحتاج الى تعديل. ولهذا السبب أدرجوا في نهايته المادة 142 التي تنص على ان "يُشكِّل مجلس النواب في بداية عمله لجنة من اعضائه تكون ممثِّلة للمكونات الرئيسية في المجتمع العراقي ، مهمتها تقديم تقرير الى مجلس النواب خلال مدة لا تتجاوز اربعة أشهر ، يتضمن توصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن اجراؤها على الدستور وتُحل اللجنة بعد البت في مقترحاتها". وامتدت الأشهر الأربعة التي حددها الدستور الى نحو عشر سنوات دون أن تتفق الكتل السياسية على النصوص الدستورية التي يمكن تعديلها.
وانضمت المادة 142 الخاصة بتعديل الدستور الى ما آلت اليه المادة 140 بشأن كركوك والمادة 65 الخاصة بإنشاء مجلس الاتحاد الى ان شُكلت حكومة حيدر العبادي في ايلول الماضي على أساس اتفاق سياسي بين الكتل التي وافقت على المشاركة في حكومته. ويتضمن الاتفاق السياسي 20 بندا بينها بند ينص على تعديل الدستور.
وأُعلن مؤخرا عن قرار مجلس النواب تشكيل لجنة نيابية دائمة تأخذ مهمة التعديلات الدستورية على عاتقها الى جانب اللجنة المؤقتة لمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق السياسي. ولكن مستشارة رئيس مجلس النواب وحدة الجميلي رسمت صورة قاتمة لآفاق عمل هذه اللجنة وفرص انجاز المهمة التي أُنيطت بها في الظروف الاستثنائية التي يمر بها العراق اليوم مشيرة الى ان التعديلات الدستورية تتطلب المصادقة عليها باستفتاء شعبي عام في حين ان ثلث البلاد واقع تحت سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" وانعدام الاستقرار هو سمة الوضع ما عدا الجنوب فضلا عن وجود نحو مليوني مهجر وبالتالي فان تشكيل اللجنة شيء والنهوض بمهمتها شيء آخر تماما.
عضو اللجنة القانونية النيابية سليم شوقي وصف الدستور العراقي بأنه من أفضل الدساتير العربية وفي المنطقة عموما ولكن الكتل السياسية تدرك رغم ذلك انه ليس وثيقة مثلى تخدم مصالح الشعب بكل فئاته وبالتالي فهي لا تمانع إذا أُجريت تعديلات عليه متوقعاً ان المواطنين ايضا سيبدون تأييدهم للتعديلات إذا أُجري استفتاء عليها.
ورأى شوقي ان ضرورة تعديل الدستور تمليها ما يتضمنه من مواد ليست لصالح المكون الشيعي ومواد ليست لصالح المكون السني واخرى ليست لصالح مكونات اخرى فضلا عن كونه وثيقة وضعية صنعها خبراء قانونيون وفقهاء دستوريون كانوا محكومين بصيغة التوافق فجاء الدستور مفتوحا على امكانية تعديل فقرات وبنود منه إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة ، بحسب عضو اللجنة القانونية سليم شوقي.
الخبير القانوني طارق حرب لاحظ ان الكتل السياسية أخفقت في الاتفاق على تعديل قانون النفط والغاز وبالتالي فان من الصعوبة بمكان تعديل وثيقة اشد تعقيدا مثل الدستور لا سيما وان الأطراف المختلفة لا ترى إلا ما يخدم مصلحتها فيه مذكِّرا بأن التعديلات الدستورية كان من المفترض ان تُجرى في عام 2006 ولكن ذلك لم يحصل وقتذاك ومن المستبعد ان يحصل الآن.
استاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد انور الحيدري هو الآخر أبدى تشاؤمه باتفاق الكتل السياسية على أي تعديلات جدية في الدستور وخاصة بعد ان فشلت في السابق رغم ما بُذل من جهود أممية لمساعدة العراق لافتا الى ان سجل القوى السياسية في هذا المجال ليس مشجعا إزاء اخفاقها في الاتفاق على العديد من القوانين وعجز اللجنة التي شُكلت لاقتراح التعديلات في غضون اربعة اشهر من اقرار الدستور عام 2005 عن اداء مهمتها بعد عشر سنوات.
واستعرض الحيدري عقبات أخرى تعترض طريق تعديل الدستور منها بالطبع سيطرة داعش على مناطق واسعة من العراق وبذلك تعذر اجراء الاستفتاء على التعديلات إذا أُقرت برلمانيا ، وغياب المحكمة المختصة بتفسير الدستور ، وفيتو المحافظات الثلاث الذي يمكن ان يجهض أي تعديلات، وصراع الارادات السياسية على حساب الرؤية الفقهية الى وظيفة الدساتير.
المحلل السياسي محمود الهاشمي توقع ان يمر وقت طويل نسبيا قبل ان تتمكن القوى السياسية من الاتفاق على أي تعديلات دستورية ذات معنى نظرا لقلة خبرتها وتفاوت مستوياتها والشك الذي يعتري العلاقات بينها. واعرب الهاشمي عن خشيته من ان التعديلات الدستورية حتى إذا أُجريت فانها ستكون على قاعدة التراضي وتبادل المصالح بين القادة السياسيين على حساب المصلحة العامة.
المعلق السياسي ومدير مرصد الحريات الصحفية هادي جلو مرعي توقع ان تُدفع قضية التعديلات الدستورية الى الظل إزاء وجود اولويات أشد الحاحاً مثل معالجة الوضع الأمني وبالارتباط معه قانون الحرس الوطني.
تنص المادة 20 من الاتفاق السياسي الذي شكلت حكومة العبادي بموجبه على "تفعيل المادة 142 الخاصة بتشكيل لجنة مراجعة الدستور لانجاز التعديلات الدستورية التي تمس الحاجة اليها في ضوء ما كشفت عنه تجربة الحكم في المرحلة السابقة".
مزيد من التفاصيل في الملف الصوتي الذي ساهم في اعداده مراسل اذاعة العراق الحر رامي احمد.