أعد مجلس الوزراء مشروع الموازنة العامة لسنة 2015 في ظروف استثنائية حتى بمعايير العراق الذي تتوالى عليه التحديات منذ الغزو الاميركي قبل نحو 11 عاما. وأمضى مجلس الوزراء الأيام الأخيرة من تشرين الثاني في صوغ موازنة تأخذ أبوابها في الحسبان عوامل ومعطيات عديدة فرضت نفسها على الفريق الذي كُلف بإعداد الموازنة. ويأتي في مقدمة هذه الاعتبارات وقوع نحو ثلث العراق تحت سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية "داعش"، بما في ذلك مدن كبيرة مثل الموصل وتكريت وتهديده مدناً لا تقل اهمية مثل الرمادي.
وأسفر هذا الواقع عن وضع مأساوي يعيشه 1.9 مليون مهجر عراقي داخل وطنهم و190 الفا غادروا العراق بحثا عن الأمان في بلدان أخرى، بحسب ارقام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. ومع اقتراب موسم البرد والأمطار تزداد معاناة هؤلاء المواطنين وتزداد معها الحاجة الملحة الى تقديم أقصى ما يمكن من المساعدات للتخفيف من وطأة الظروف المأساوية التي يعيشونها.
وكان سقوط الموصل وتكريت واندفاع مسلحي داعش نحو بغداد كشف عن مواطن خلل خطيرة في القوات المسلحة تبدت بانهيار فرق عسكرية كاملة وانسحابات غير منظمة ونقص في التسليح والتدريب والقيادة وضعف مزمن في القدرات الاستخباراتية. وكان للفساد دوره في تقويض المؤسسة العسكرية، كما أظهرت قوائم الجنود الوهميين وبيع الرتب والمتاجرة بأرزاق الجنود والأسلحة المخصصة لأبناء العشائر في السوق السوداء وغيرها من الفضائح. وكل هذا يتطلب إعادة بناء كاملة للقوات المسلحة على أسس جديدة ورصد اموال لتجهيز الجيش بأسلحة ومعدات تمكنه من خوض مواجهة يتوقع مراقبون ان تكون طويلة مع داعش.
في هذه الأثناء هبطت اسعار النفط الى أدنى مستوياتها منذ اربع سنوات. وبسبب اعتماد العراق ذي الاقتصاد الأحادي اعتمادا يكاد ان يكون كاملا على عائدات تصدير النفط فان هبوط اسعاره في الأسواق العالمية يكبد الاقتصاد الوطني خسائر جسيمة. ولإعطاء فكرة عن حجم هذه الخسائر فان سعر النفط هبط بنسبة 10 في المئة خلال يوم واحد عقب اجتماع اوبك في فيينا يوم الخميس الماضي، وهي أكبر نسبة هبوط في يوم واحد منذ ما يربو على خمس سنوات. وفقد نفط القياس قرابة 40 في المئة من قيمته بهبوط سعره من 115 دولارا للبرميل عام 2010 الى نحو 70 دولارا في الوقت الحاضر.
قيمة الموازنة المقترحة لعام 2015 تبلغ نحو 100 مليار دولار على أساس ان يكون سعر النفط في حدود 70 دولارا للبرميل ... زيباري
على هذه الخلفية أعد مجلس الوزراء مشروع الموازنة العامة لسنة 2015 بعد نقاشات مستفيضة لبنودها في جانبي الايرادات والمصروفات. وقال وزير المالية هوشيار زيباري لوكالة رويترز ان قيمة الموازنة المقترحة لعام 2015 تبلغ
نحو 100 مليار دولار على أساس ان يكون سعر النفط في حدود 70 دولارا للبرميل. ولكن عضو اللجنة المالية النيابية صالح الساري وصف في حديث خاص لاذاعة العراق الحر هذه التخمينات لسعر النفط بأنها اول خطأ وقع فيه من وضعوا الموازنة لأنه سعر غير واقعي إزاء الانهيارات المتوقعة في سعر النفط متهما اياهم بالمبالغة في تقدير سعر النفط في الوقت الذي كان عليهم ان يبدوا قدرا أكثر من التحفظ في تخميناتهم اسوة ببلدان اخرى في المنطقة مثل ايران ودول الخليج التي تبني حساباتها بعد دراسة اتجاهات الاسعار على امتداد عشر سنوات لتأتي توقعاتها دون متوسط السعر خلال هذه الفترة تحسبا للتقلبات والمفاجآت. واضاف الساري ان واضعي موازنة 2015 هم أنفسهم الذين وضعوا موازنات الأعوام السابقة ليكرروا الأخطاء نفسها في موازنة 2015 ، على حد تعبيره.
والى جانب اتهام المخمن بالمبالغة في تقدير سعر النفط وهو يعلم ان العراق يبيع نفطه بسعر يقل 7 الى 9 دولارت عن متوسط السعر في الأسواق العالمية أخذ عضو اللجنة المالية النيابية صالح الساري على مشروع الموازنة تخصيص 23 في المئة فقط للأمن والدفاع قائلا ان رصد 50 في المئة من اعتمادات الموازنة لن يكون كثيرا على التحديات والمخاطر التي تواجه العراق شريطة وضع صمامات أمان ضد الفساد في انفاق هذه التخصيصات سواء على عقود التسليح او دفع الرواتب الى منتسبي القوات المسلحة ووزارة الداخلية والأجهزة الأمنية والحشد الشعبي بالانفاق على عناصر وجنود موجودين وليس "فضائيين"، على حد وصف الساري.
واقترح النائب صالح الساري زيادة الموارد المرصودة للدفاع والأمن الى 50 ترليون دينار قائلا ان تحرير الموصل وتكريت وحماية الرمادي والحفاظ على ما تحقق من مكاسب حتى الآن واعداد استراتيجية أمنية تشمل محافظات العراق من زاخو الى الفاو تتطلب امكانات مالية أكبر للانفاق على التسليح والمقاتلين وعناصر الأمن علما بأن هناك على العراق التزامات تعاقدية قيمتها 17 مليار دولار نشأت في عام 2014 وحده.
ودعا الساري الى تأجيل المشاريع الاستثمارية الجديدة لتنفيذ مهمات أشد الحاحا وتقليل الاعتماد على عائدات النفط في تمويل الموازنة بايجاد مصادر دخل غير نفطية من خلال تطوير القطاعات الأخرى مثل السياحة والزراعة والصناعة محذرا من ان الاعتماد على النفط يرهن اقتصاد العراق بسلعة متقلبة الأسعار وينذر بعواقب وخيمة على البلد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
نائب رئيس لجنة الاقتصاد والاستثمار حارث الحارثي لفت الى ان خسائر العراق خسائر مركبة لأن هبوط اسعار النفط في الأسواق العالمية اقترن بانخفاض انتاج النفط العراقي بسبب سيطرة داعش على مناطق تمر عبرها انابيب أو توجد فيها آبار ومن هنا جاءت النسبة المخصصة للأمن والدفاع في الموازنة أقل مما كانت اللجنة تطمح فيه ولكن واضعي الموازنة كانوا محكومين بهذه المحدِّدات في موازنة 2015.
ودعا الحارثي الى تشجيع رؤوس الأموال الخاصة سواء أكانت أجنبية أو عربية أو محلية على العمل في السوق العراقية لدفع عجلة النمو الاقتصادي وبذلك توفير المال العام الذي يُنفق على مشاريع استثمارية يتكفل الفساد والبيروقراطية والمقاولات المشبوهة بأفشالها.
الخبير الأمني عدنان نعمة السلمان رأى ان ما رُصد في مشروع الموازنة للانفاق العسكري يكفي لترصين الوضع إذا استُخدم استخداما عقلانيا امينا في ظل الدعم الدولي الذي يتمتع به العراق بخلاف الموازنات السابقة التي رصدت اعتمادات أكبر كانت كافية لبناء منظومة من اقوى المنظومات الدفاعية في المنطقة لولا الفساد والهدر وسوء الادارة.
واشار السلمان الى ان حكومة حيدر العبادي ورثت تركة ثقيلة من الحكومة السابقة فيما يتعلق بأبواب الصرف وعليها معالجة هذه المشكلة الكبيرة بخفض النفقات، لا سيما على المستويات العليا من مفاصل الدولة.
واعتبر الخبير الأمني عدنان نعمة السلمان ان ما لا يقل أهمية عن الجانب المادي والاقتصادي في المجهود الأمني هو الجانب المعنوي وان العراقيين حاليا بحاجة الى ان يروا تقدما تحققه القوات العراقية على الأرض ضد داعش.
استاذ الاقتصاد في جامعة بغداد عبد الرحمن المشهداني قدر حجم موزانة 2015 بنحو تسعين مليار دولار مع عجز قدره سبعة وعشرون مليار دولار مشيرا الى المفارقة المتمثلة في مقارنة هذه الموازنة مع موازنة 2013 لعدم وجود موازنة عام 2014 كي يمكن عقد مقارنات معها. وعزا المشهداني ايضا رصد تخصيصات أقل الى هبوط اسعار النفط وعدم القدرة على التعويض عن هذا الهبوط بزيادة حجم الانتاج.
واعاد الأكاديمي عبد الرحمن المشهداني التذكير بأن اللجنة المالية النيابية اعلنت في وقت سابق بأن موازنة 2015 ستكون موازنة أمن برصد 23 في المئة لهذا الباب وموزانة نازحين برصد 10 في المئة لهذا الباب على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى دون ان يعني هذا ان الموازانات السابقة كانت تولي هذه القطاعات اهتماما كبيرا، بحسب المشهداني.
إزاء الانتقادات التي تعرض اليها مشروع الموازنة بسبب تحديد قيمتها على اساس توقعات غير واقعية لاتجاهات سوق النفط واستمرار سعره في الهبوط مؤكدا صواب هذه الانتقادات توجه رئيس الوزراء حيدر العبادي الى البرلمان يوم الأحد لابلاغ النواب بأن التخمينات السابقة ستخضع لإعادة نظر. ويعني هذا ان وصول الموازنة الى مجلس النواب لمناقشتها سيتأخر حتى إشعار آخر.
مزيد من التفاصيل في الملف الصوتي الذي أعده مراسل اذاعة العراق الحر ناجي ستار.