كثيرا ما تكرر القولُ بأن العراق يكتمل بتلوّن مكوناته وموزائيك اطيافه القومية والدينية والمذهبية، وبرغم حالات التصدع التي شابت هذا الكيان، خلال القرن الماضي، وأبرزها هجرة اليهود العراقيين وتهجير الكرد الفيلية، الا ان ما شهدته مكوناته المتعددة خلال العقد الأخيرمن استهدافٍ بالقتل، وتهديدٍ وتهجير يثير سؤالا موضوعيا عن مدى استقرار هوية العراق الاجتماعية، برغم تعرضه الى تغيير في ديمغرافيته، وتعايش مجموعاته المتنوعة بأمان.
يشعر جوزيف يلدا ايشو، العراقي المسيحي الذي اضطر لترك البلاد قبل سنوات، بمرارة إزاء ما يحصل حاليا للعراقيين الذي عُرفوا بتعايش مكوناتهم سلميا في عقود خلت، ويستعيد مشهدا تركته في ذاكرته سنوات الحرب خلال الثمانينات بين العراق وايران عندما تبادل مع زملائه من الجنود المسلمين شيعة وسنة، مواقف التعاضد والانقاذ والرعاية سنوات الحرب، دون التوقف للتساؤل عن الدين او المذهب او القومية والمنطقة.
إنتماء للطائفة أم للوطن؟
يرى مراقبون بان سنوات العقد الأخير وما رافقها من احداث التشنج الطائفي والديني والعِرقي انتجت حالة من الفوضى والتهديد تزامن مع ضعف سلطة الدولة والقانون، افضت الى انكفاء العديد من العراقيين على طوائفهم الخاصة، حيث تتعزز العلاقات العرقية والمذهبية ويسود التضامن والشعور بالأمان داخل المجموعة الواحدة، ويبدي أفرادُها المساعدة والحماية بعضهم لبعض، بينما تنحسر الى حد ما مساعدة ابناء الطوائف الأخرى بل حتى التضامن معهم. ما رسخ حالة الانتماء للطائفة والمجموعة على حساب الانتماء للوطن الواحد.
"يوماً ما سيختفي مسلحو داعش من ارض العراق، وقد تزول ملامح التوتر والتعصب الطائفي" ... عراقيون
يخبرنا التاريخ أن امماً وشعوبا تعرضت لهزات عصفت بنظامها الاجتماعي ومكوناته المتنوعة في ظروف الحروب والكوارث، لكنها لم تلبث بعد حين ان تجاوزت الأسباب واستعادت نسيجها المجتمعي بمكوناته المختلفة وسعت للعيش بسلام من جديد، ويلفت أستاذ التاريخ محمود عبد الرحمن بهذا الصدد، في حديث لإذاعة العراق الحر الى أهمية الوعي الثقافي والتحضر في تدارك تلك الأمم والشعوب لما تعرضت اليه من تمزق وتفتت.. "يوما ما سيختفي مسلحو داعش من ارض العراق، وقد تزول ملامح التوتر والتعصب الطائفي"، برغم الامل الكبير الذي تنطوي عليه هذه الامنية للعديد من العراقيين، الا أن عودة الثقة والتعايش بين الطوائف والمكونات الى ما كانت اليه قبل عقود، لن تكون بتلك السهولة، بحسب بعضهم. فالكثير ممن هُجروا من مناطقهم بعد عام 2003 خائفون اليوم من العودة إلى تلك المناطق، يقولون اننا عشنا بجوار الآخرين على مدى قرون، لكنْ عندما هددنا المتطرفون والارهابيون اضطررنا للفرار قام بعض جيراننا بنهب بيوتنا وممتلكاتنا، هذا ما تعكسه الإعلامية سانتا ميخائيل في اتصال مع إذاعة العراق الحر من بروكسل، اشارت خلاله الى تشاؤمها من عودة الأمور الى طبيعتها في العراق.
التعصب والإرهاب تمزيق للتنوع
جدد تمدد مسلحي تنظيم داعش على مدن ومناطق شاسعة في العراق من خلال نهجهم العنيف وخطاب التهديد والترهيب للعديد من المكونات الدينية والمذهبية في العراق، جددَ المخاوف من صعوبة إعادة السلام والوئام في تلك المناطق و تدمير العيش المشترك.
الشعب يدرك ان "البيت" واسع وكبير ليضم الجميع وأن العيش المشترك يضمن بقاءنا جميعاً ... الشيخ آل ياسين
لكن الشيخ حسين آل ياسين من مدينة الكاظمية، يشدد في خطابه الديني والعقائدي على حق جميع العراقيين، بمختلف طوائفهم واديانهم ومذاهبهم، في العيش الآمن في الوطن الواحد، وانتقد آل ياسين في اتصال مع إذاعة العراق الحر مبالغة البعض في تغليب اعوانه على الأخرين، مؤكدا على ان الشعب يدرك ان "البيت" واسع وكبير ليضم الجميع وأن العيش المشترك يضمن بقاءنا جميعا، لافتاً الى أن جزء من تجليات المنعطف التاريخي الخطير الذي يشهده العراق اليوم يشابه ما عاشته اوربا قبل قرون عند تحولها من الاقطاعيات الكبيرة والملكيات الموروثة بالحق الإلهي، الى ديمقراطيات ومجتمعات مدنية.
ومع قناعته بان هذه الرؤية تتشابه مع رؤية اغلب المكونات العراقية، لكن لا يجد الشسيخ ال ياسين مناصاً من مواجهة التكفيريين الذين يسعون لتمزيق النسيج المجتمعي في البلاد، ويرفضون الاخر ويستهدفون المختلفين بالقتل والتصفية، مؤكدا انه في الأوضاع الطبيعية فان القوات المسلحة هي المسؤولة عن ضمان امن المجتمع
وفي الوقت الذي يشوب خطاب بعض رجال الدين صوتٌ متعصب وتحريضي متزامنا مع النهج التكفيري لتنظيم داعش وفكره، يتفق الشيخ خالد العزاوي مع تفاؤل زميله ال ياسين بعودة السلام والوئام بين جميع مكونات المجتمع العراقي في المستقبل. محذرا في حديثه لإذاعة العراق الحر من تأجيج بعض رجال الدين، شيعة وسنة، الأزمات وتحريضهم على اشعال الفتنة من خلال خطاب متعصب تجهيلي.
المجتمعات المتحضرة تسعى بحرص على الحفاظ على تنوعها وديمغرافيتها عند التعرض الى مخاطر ظروف وحروب وكوارث فاصلة ... نهى درويش
بين هذا وذاك يتضح ان إعادة بسط الاستقرار الاجتماعي وتطمين وإعادة المجاميع السكانية التي استُهدفت وتعرضت للتهديد والتهجير، يحتاج الى جهود جادة ومتنوعة، منها ذاتية، في احقية العيش المشترك، ووعي مجتمعي لمفهوم التسامح والتعايش السلمي، فضلا عن إرادة سياسية وحكومية تتساوق وتوجهات المجتمعات المتحضرة، بحسب أستاذة الاجتماع نهى درويش التي لفتت في حديثها لإذاعة العراق الحر، الى ان المجتمعات المتحضرة تسعى بحرص على الحفاظ على تنوعها وديمغرافيتها عند التعرض الى مخاطر ظروف وحروب وكوارث فاصلة.
شارك في إعداد الملف الصوتي مراسل إذاعة العراق الحر في بغداد رامي احمد.