بدا غريباً ان يشارك شابٌ عراقي مسلم في مسيرة ذات طقس انساني بجذور دينية مع عشرات الآلاف من الحجيج، يمر طريقها بثلاثة بلدان اوربية ويصل طول دربها الى 800 كلم.
ما الذي أراد ان يقوله حمزة مازن ذو العشرين ربيعا (ولد وترعرع في بغداد التي فارقها وعائلته قبل نحو تسع سنوات، ويحمل الجنسية الأمريكية حاليا)، حين حمل حقيبته من حيث يقيم في كاليفورنيا، متجهاً الى درب سانتياغو دي كومبوستيلا التاريخي الذي ينتهي الى المدينة التي تحمل نفس الاسم، وهي عاصمة المنطقة الإسبانية وكانت مركزا قديما للحج.
يمر طريقها بأراضي البرتغال واسبانيا وفرنسا، يطرقها مشيا ً على الاقدام عشرات الالاف من مختلف بلاد الأرض، بدياناتهم وافكارهم وقناعاتهم وهوياتهم المتنوعة.
يحدثنا ضيف برنامج حوارات حمزة عن قراره الشخصي بالمشاركة في هذه المسيرة -الملتقى الإنساني، والتي قرأ عن جذورها التاريخية وتحوّلها من طقس مسيحي الى فعالية إنسانية عامة توفر اللقاء والتعارف لآلاف الناس بمختلف المشارب ليتبادلوا الأفكار والأحاديث والتجارب والمعارف عن بلدانهم وثقافاتهم.
لكن ما لم يتوقعه هؤلاء أن يشاركهم المسيرة السنوية تلك شابٌ عراقي مسلمٌ يجيد بعفوية وذكاء تقديم نفسه: مؤمنا بدينه وبإنسانيته الأشمل، وبوطنه الأم العراق، الذي يتكرر اسمه كثيرا في نشرات الاخبار العالمية مقترنا بالعنف والموت والتخريب، بحيث كادت تغيب عن الناس حقيقة ان هذا البلد المضطرب والمفجوع بأخبار الموت والدماء اليوم هو مهد أولى الحضارات، وبيت الديانات الأولى، ومصدر للثقافة والابداع والتعلم، الى حين، لكن دخان الحروب والويلات وغبار التجهيل والتطرف شوّهت صورته الحقيقية
صلاة وتضامن ودموع الحجيج الى العراق
يخبرنا حمزة مازن خلال الحوار عن مواقف مؤثرة ومصادفات ذات دلالة، خلال المسيرة التي استغرقت ثلاثة أسابيع، غيرت رؤى ومواقف العديد ممن التقاهم في رحلة الحج الإنساني تلك، وكيف انهمرت دموع المشاركين وهم يستمعون الى حمزة يُنبئهم عما لم يعرفوه عن العراق وأهله ومعاناتهم، وكيف توقف كثيرون ليصلّوا بصدق وخشوع ويدعوا بالسلام والامن والوئام الى العراق والعراقيين.
امتلك الشاب العراقي حمزة مازن، بحضوره وتهذيبه قلوب الكثيرين في هذه الرحلة، فعامله بعضهم كإبن وأخ يفخرون به، وأصرّ زوجان استراليان أن يكونا أشبه بوالديه بعد تعرفهم عليه، فقدمت له الزوجة كارين وهي ممرضة، رعاية طبية قصوى بحرص الأم، لمعالجة ما تعرضت اليه قدما حمزة من اصابة خلال مسيرة الأسابيع الثلاثة، وكيف كانت أكلة "الباجة" المفتاح الى توطيد الصداقة بين حمزة والزوج مايك، الذي تبين أنه ابن جندي بريطاني عمل في "الحبانية" بالعراق في خمسينات القرن الماضي، حببَ لأبنائه اكلة الباجة والسمك "المسكوف" والأكل العراقي حيث اغرم به عندما كان يزور منطقتي الاعظمية والكاظمية في بغداد، فكانت مفاجأة أن يعرف ان حمزة ابن تلك المناطق التي كثيرا ما سمع عنها من أبيه التسعيني.
الحوار يتطرق أيضا الى تفاصيل ذات دلالة وطرافة في رحلة، أو مغامرة حمزة التي قام بها يدفعه شعور وراسخ بحب الانسان، واحترام الآخر وفكره وثراء القيم النبيلة التي لا تعرف الهويات والجغرافيا والعناوين، ليقدمها بعفوية من خلال نافذته التي تشبه القلب، فقد كانت على شكل خارطة بلده الأم العراق.