دار الحوار مع الكاتب، المؤرخ سيار الجميل (قبل ثلاث سنوات) حول خصوصية الموصل، مدينة وحاضرة وثقافة، وانعكاس ذلك على شخصية أبنائها وغيرهم من العراقيين، خصوصا أنها شهدت بروز النخب المدنية الأولى في القرن التاسع عشر تزامنا مع ازدهار المدارس الحديثة واهتمام العديد عائلاتها بتربية أبنائها.
فلا غرابة ان تقدم الموصل على مدى نحو قرنين مبدعين وبناة عراقيين توزعوا على مختلف التخصصات والمعارف والعلوم والمهن والنشاطات، وتولى العديد منهم أدوارا مهمة مع نشوء الدولة العراقية الحديثة. فضلا عن شخصيات ثقافية دينية وعلمية وفنية وسياسية لمع نجمها في المجتمع الموصلي قبل ان تكون مؤثرة وفاعلة بوضوح في مجتمع العاصمة، والعراق عموما.
تطرق الحوار مع المؤرخ الجميل الى دور المسيحيين الموصليين في تشكيل شخصية المدينة ومجتمعها منذ قرون،
ولم يغفل الخدمة الكبيرة التي قدمتها مطبعة الآباء الدومنيكان التي أنشئت في الموصل سنة 1856 وقد طبعت ونشرت إضافة لكتب اللاهوت، عشرات الكتب من نوادر التراث العربي وتحقيقاته، والعديد من كتب الادب والمسرح والدراسات المعاصرة، والتي ضاهت مطبوعاتها في الجودة، ما كانت تنتجه مطابع بولاق المصرية الشهيرة.
واشار الدكتور سيار الجميل الى الخدمات الكبيرة التي قدمها الآباء الدومنيكان ليس فقط من خلال تأسيس مطبعتهم في الموصل، بل إنشائهم اول مستوصف ومدرسة لم تحصر خدماتها بالمسيحيين بل استقبلت ايضا أبناء الموصليين من جميع الملل والأديان.
خلص الحوار الى تداخل مثير في شخصية "الموصل" كمدينة محافظة، متزمتة، متدينة أحيانا، لكنها تضم في الوقت نفسه بؤرا للأفكار المعاصرة واللبرالية و اليسارية، وبرغم رسوخ فكرة القومية العربية لدى اغلب الموصلين، الا انه لا يمكن اغفال تيار واسع ومؤثر من حملة الفكر الماركسي واليساري الموصليين قبل أواسط القرن الماضي، انتقل أغلبهم بعدئذ الى العاصمة بغداد حاملين ألويتهم الفكرية والحزبية ليبشروا بها من هناك.
صراع مستويات، المحافظين بمواجهة المستنيرين
وشخص الباحث الجميل صراعا اجتماعيا بين مستويات عدة في الموصل، يمكن تلخيصه بغلبة التيار المحافظ أمام التيار المستنير المجدد، انه صراع اجتماعي دائم، برأيه، يسعى الى المحافظة على هوية مجتمع المدينة، بمواجهة النشاط المدني بتقدميته واستنارته، ما اضطر الأخيرَ في كثير من الأحيان الى مغادرة المدينة للبحث عن فسحة التعبير عن الأفكار والرأي، برغم ان جذوره ضاربة في مدينته الموصل.
وبرغم هذه المفارقة اللافتة يقول سيار الجميل، ان المجتمع الموصلي لم يشهد خلال عقود القرن العشرين صراعا دمويا بين أبنائه وتباين عنيف في أفكارهم، سوى ما حدث من ممارسات في فترة محدودة من عام 1959، فقد كانت روح التسامح سائدة، ولم يكن هناك تهديد لهويات وأديان وقوميات، (عاش فيها مسلمون ومسيحيون ويهود، عرب وكرد وتركمان وأيزيديون وشبك) بل صراع مستويات: محافظين ومتحررين، ملاحظين التنوع الديني والقومي والمذهبي الواسع في مجتمع هذه المدينة العريقة.
وردا على سؤال حول الصورة النمطية للشخصية المصلاوية، اوضح المؤرخ الموصلي سيار الجميل أن "المصلاوي" محافظ ٌ وقلقٌ ومتحسب، لا يمنح الثقة للغير بسهولة، لكنه كريم النفس، حذرٌ قد يفتح بيته للصديق مرحبا، لكن ليس للغريب.
الموصلي ابن بار لشخصية مدينته، بتأريخها المركب من العراقة والتنوع الثقافي والديني والقومي والمذهبي، مدينة شهدت أدوارا منوعة من الغنِى والتجارة، الى المجاعة والحصار، من الثراء والوفرة والسلام الى قحط وغزوات.