كتاب (كرستوفر كلارك) حول اندلاع الحرب العالمية الأولى (السائرون النائمون: كيف اتجهت أوروبا نحو الحرب في 1914) اعتبرته صحيفة نيويورك تايمز عملا فذا، وراجت مبيعاته في عدد من الدول الأوروبية. مراسل إذاعة (دراغان ستافليانين) أجرى مقابلة مع هذا الأكاديمي الأسترالي المولد، أستاذ تاريخ أوروبا المعاصر بجامعة كامبرج.
* لو لم تحدث عملية اغتيال الدوق فرانتس فردناند وزوجته في 28 حزيران 1914 هل كان من الممكن تفادي الحرب العالمية الأولى؟
كلارك: لو لم ينفذ الاغتيال لكان فرانتس فردناند سيعود حياً مع زوجته إلى فينا. لم يكن شخصا لطيفا، ولكنه دأب بإصرار على معارضة أي شكل من أشكال المغامرات العسكرية في منطقة البلقان وخصوصا ضد صربيا. لم يكن معجبا بالصربيين - فكان عنصريا فيما يتعلق بجميع الشعوب البلقانية، شأنه في ذلك شأن غالبية الأوروبيين آنذاك - إلا أنه لم يكن يحبذ أي شكل من أشكال (ألعب القوة) في صربيا. فكان سيستمر في معارضة أية سياسة تستند إلى الاستفزاز أو إلى الحل العسكري للقضايا العالقة بين بلغراد وفينا. كما نعلم أنه كان على وشك عزل (كونراد فون هوتزندورف) - الذي كان بالفعل جنرالا عدوانيا ورئيسا للأركان العامة النمساوية - الذي دعا أكثر من عشرين مرة إلى الحرب مع صربيا، وتسبب إصراره هذا إلى جعل الناس يتجاهلون دعواته. كان رجلا خطيرا بالفعل، فكان فرانتس فردناند سيعزله بسبب الخلافات الكثيرة والمتراكمة بينهما. وكان فون هوتزندورف قد تحطمت سمعته حين سمح بوقوع فضيحة (ريدل) - ذلك العقيد الذي باع مجمل جداول الاستنفار العسكري إلى الروس الذين كانوا يبتزونه لكونه شاذّا جنسيا. كل ذلك جرى أمام أعين فون هوتزندورف، ما جعا العديد من أقرانه يعتبرونه رجلا ميتا مع حلول عام 1914. كان قد فقد سطوته وكان فرانتس فردناند سيعزله، ثم وقعت عملية الاغتيال التي نتج عنها أمران: مقتل أقوى الأصوات الداعية للسلام، وتعزيز مكانة أقوى الأصوات العدوانية، أي صوت كونراد فون هوتزندورف.
* ولكن ماذا في شأن القضايا الكامنة التي أدت إلى الحرب؟ ألم يكن يُجرى الكثير من الترويج للنزاع ضمن المنظومة القائمة؟
كلارك: دعنا نستبعد قيام الحرب. لم تزل هناك حاجة لحل المشاكل - في مرحلة ما من القرن العشرين كان علينا أن نجد حلا للمسألة البولندية، وحلا لمسألة سلافيا الجنوبية، أي أن النزاع كان سيقع لا محال. ربما كان النمساويون/الهنغاريون دخلوا مرحلة كانت ستنتهي بحل المسألة من خلال إيجادهم حلولا ترضي جميع القوميات لم تعثر عليها سابقا، أو من خلال كبح التداخل والفشل القومي ولكن ذلك ما كان سيسفر بالضرورة عن احتراق أوروبا بالطريقة التي اندلعت فعلا - تلك هي النقطة الرئيسية.
* خلال شهر تموز 1914، في أعقاب اغتيال فرانتس فردناند، تفاقمت التوترات بشكل مطرد، ما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى في نهاية الشهر. برأيك، من هو الذي يتحمل أكثر المسئولية عن دفع أوروبا إلى نقطة اللا عودة؟
كلارك: إننا نشاهد في نهاية الأمر قارة أوروبية تقطنها قوى عظمى تتطلع كل منها بشكل بالغ الأنانية - بل بلا احترام لمصالح الآخرين - نحو تقديم مصالحها، وكانت كل منها مستعدة بالتالي للمجازفة بوقوع نزاع رئيس.
* ولكن هل يمكننا التحدث في شأن تحديد الجهة الأكثر تحملا للمسئولية؟ هل كانت ألمانيا؟
كلارك: سألني أحد الأصدقاء قائلا: دعنا نضع جدولاً للنسب المئوية المتعلقة بالمسئولية، وأراد تقسيمها بين ألمانيا وفرنسا وروسيا والباقين. أعتقد أننا لو ننظر إلى أزمة تموز التي ولدتها عملية الاغتيال، فيبدو لي أن (الصك المفتوح) المتمثل في الدعم الألماني المفتوح لفينا سيضعها على رأس القائمة. المرتبة التالية تتمثل في الاستنفار الروسي. وأعتقد أن إعلان الحرب النمساوي سيكون في المراتب المقدمة. وفي نهاية الأمر كنت سأوزع المسئولية بمقادير متساوية. ولكن الأمر لا يتعلق فقط بأزمة تموز. صحيح أن أزمة تموز ظهرت بعد الاغتيال، ولكن تأزم الأوضاع في البلقان كان قائما قبل الاغتيال كما كانت الأوضاع الدولية غير مستقرة وكان السلام هشاً جداً. أما هشاشة السلام فيعود إلى أسباب بالغة التعقيد كما يتعلق الأمر بتلاعبات القوى العظمى. فما الذي يجعل فرنسا تزود روسيا بالمال؟ ما الذي جعل الفرنسيين في خريف 1913 يوافقون على منح الروس أضخم قروض في تاريخ التعاملات المالية؟ إنها أكبر القروض الدولية عرفها التاريخ، وكان المقصود منها بناء جيش روسي هائل مكون من 2،8 مليون رجل وأربعة خطوط للسكك الحديدية تمتد إلى الجبهة الألمانية. وهذا لا يمثل السبيل المناسب للحفاظ على السلام.
* بعد هزيمة نابليون في القرن التاسع عشر، أقيم توازن مستقر نسبيا بين القوى في أوروبا استمر فترة من الزمن. ثم جاء نهوض ألمانيا، وكما نرى في النظام العالمي اليوم، حين توجد قوى صاعدة وأخرى متراجعة، سنرى أن الوضع السياسي الدولي مفعم بالغموض. هل ترى ما يوازي ذلك في عالمنا اليوم؟
كلارك: هذا ما يجعل أوضاع 1914 مقلقة لعالمنا اليوم، أي إننا نعيش في عالم يشبه عالم 1914 بدرجة كبيرة وبشكل متزايد. حين قرأت عن كل ذلك في أيام دراستي، كنا نعيش في عالم مختلف تماما، أي عالم الحرب الباردة خلال عقد السبعينيات. كان العالم مختلفا بدرجة جعلت عام 1914 يبدو وكأنه يعود إلى عصور مصر القديمة. ولكننا اليوم في وضع مطابق تماما. لقد رأينا كيف كشفت الأزمة الأوكرانية عن عجز الاتحاد الأوروبي في تكوين نظرة مشتركة لمثل هذه المسائل. أما نظرتي الخاصة - التي أرى من خلالها ما يوازي عالم 1914 - فهي أن مسببات الأزمة لا تعود إلى تلاعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بالقوة فحسب، بل إن الأزمة بأكملها مفتعلة. لا أريد أن أوجه اللوم لأحد ولكنني أعتقد بأن تحركات الاتحاد الأوروبي ساهم بتقويض الاستقرار في أوكرانيا.
* يشكل تحقيق توازن القوى القومية في دولة متعددة الأصول العرقية تحديا. فالصرب والآخرون في البلقان ما زالوا يتجادلون حول إن كان تفكيك يوغوسلافيا تطورا جيدا أم سيئا. هل لديك وجهة نظر خاصة تجاه الإمبراطوريات والاتحادات بالمقارنة مع الدول القومية؟
كلارك: لا بد لي أن أقول إن يوغوسلافيا كانت تعجبني كما كنت أحبذ بقاء تشيكوسلوفاكيا. كما أميل نحو بريطانيا العظمى، وأعتقد أن الاسكتلنديين عليهم ألا يتركوا إنكلترا. لديّ عقيدة بهذه الحلول الفدرالية وأعتبرها رائعة. من السهل عليك أن تتخيل ضم يوغوسلافيا إلى الاتحاد الأوروبي، وما زال ممكنا أن نحقق ذلك مع البلقان. كلي أمل بأن تصبح صربيا عضوا كاملا في الاتحاد الأوروبي. المهم هو أنني أعتقد بأن هذه الهياكل الفدرالية مفيدة لبني البشر ولازدهارهم. أما الدولة القومية فليست مفيدة بشكل العام لبني البشر، فهي لم تكن جيدة للألمان، ولا للشعوب التي كان عليها أن تجاور الألمان، خصوصا حي تململ الألمان وقرروا إبادة كل الآخرين. فلذلك لم تكن الدولة القومية حلا مثاليا لشئون أوروبا السياسية.
* ما هي الدروس التي يمكننا الاستفادة منها اليوم من الحرب العالمية الأولى؟
كلارك: علينا ألا نثق في كوننا سنتمكن من توقع الحرب القادمة قبل نشوبها بسنة ونصف، ما يتيح لنا ما يكفي من الوقت لتفاديها، فليس من المتوقع بالضرورة أن تسير الأمور على هذا النحو. لقد رأينا في الأزمة الأوكرانية مدى السرعة التي انقلبت فيها العلاقات فيما بين روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. إنها بضعة أشهر. وهنالك الوضع في غرب المحيط الهادئ، في بحر الصين، ولقد رأينا الآن تدهور العلاقات مع فيتنام نتيجة ارتطام سفن صينية بفرقاطات فيتنامية، ومن الممكن أن يتدهور الوضع بسرعة فائقة. لذا أعتقد أن أحد الدروس في الكتاب هو أن التطورات السيئة تحدث بسرعة، وعلينا أن نكون يقظين جدا وألا نركز على إدراك اقتراب الحرب، بل علينا قبل ظهور تلك البوادر أن نقيم الهياكل الكفيلة بتفادي النزاعات المسلحة السافرة.
أجرى المقابلة مراسل إذاعة أوروبا الحرة دراغان ستافليانين، ونقلها الى العربية أياد الكيلاني.