مثلما اثارت الاحداث الأخيرة التي شهدتها محافظات نينوى وصلاح الدين والانبار وديالى الانتباه الى أهمية كفاءة وانضباط ومهنية منتسبي المؤسسة العسكرية لحماية الامن الوطني، جددت – في الوقت نفسه- تقييمَ أداء مؤسسات الدولة ، وكفاءة منتسبيها، ومستوى اداء الموظف الحكومي باعتبار ذلك مؤشرا على استقرار الدولة نفسها ورصانة اجهزتها وانضباطها.
ومثلما اتهُمت المؤسسة العسكرية بالتضخم الكمي والعددي وتدني الولاء والانضباط لدى بعض المنتسبين، تحضر نفس المعايير عند تقييم المؤسسات الحكومة والإدارية والخدمية. خصوصا فيما يتعلق بإنجاز معاملات المواطنين وتيسير الخدمات لهم، اذ كثيرا ما اشتكى بعضهم خصوصا ممَن لم يتوفر على عوامل مساعدة في " تمشية" معاملته من المحسوبية والواسطة او ربما الرشوة أحيانا.
وزير سابق: يمكن أن نعمل برُبع أو خُمس عديد موظفينا!
يخشى عراقيون من تزايد مؤشرات التدني في أداء مؤسسات الدولة خصوصا تلك التي يحتاج المواطن الى مراجعتها، وتتنوع الاسباب بحسبهم بين التسيّب الإداري، وعدم كفاءة بعض القيادات والإدارات، والبطالة المقنعة، والتعيين الكيفي والجمعي دون مؤهلات لشغل المناصب، والمحسوبية والفساد وغلبَة الروتين الثقيل والبيروقراطية.
وقد كشفت وزارة التخطيط مؤخرا أن عديدَ من يتسلمون رواتب شهرية من الدولة العراقية تجاوز الستة ملايين شخص، وأن نسبة التضخم في أعداد الموظفين الحكوميين بلغت 300%، أي ثلاثة أضعاف الحاجة لهم، الأمر الذي يشكل عبئاً كبيراً على الموازنة العامة للدولة.
ويؤكد مدير اعلام الوزارة عبد الزهرة الهنداوي في حديث لإذاعة العراق الحر ان وزارته نبهت الى هذه المخاطر ودعت الحكومة الى تفعيل حزمة قوانين وإجراءات داعمة للقطاع الخاص وتوفير ضمانات للعاملين فيه بما يقلل الاندفاع المتزايد لدى الشباب على الوظيفة الحكومية.
يقدر مراقبون نسبة الموظفين غير المنتجين بنحو 90 % من مجموع موظفي الدولة العراقية، ما يجعل وجودهم في مفاصل المؤسسة الحكومية عبئاً كبيراً على الدولة.
وكان وزير العلوم والتكنولوجيا السابق رائد فهمي نبه في حديث سابق لبرنامج "حوارات" من إذاعة العراق الحر، الى مخاطر البطالة المقنعة التي تتخم الكثير من الدوائر الحكومية وتعرقل اداءها، مؤكداً ان بإمكان بعض الوزارات ان تؤدي أعمالها برُبع أو بخُمس ملاكها المنتفخ الحالي.
الوظيفة عندما تكون هبة ومكرمة
تكرر الحديث مرارا خلال السنوات الاحدى عشرة الأخيرة عن الحاجة الى تغيير جوهري في بنية وفلسفة عمل المؤسسة الحكومية، والعمل على تطوير أساليب العمل وأتمتتها وتأهيل كوادرها، ومغادرة فكرة أن "التعيين" مكرمة وهبـَة تمُنح للبعض، بينما هو في حقيقة الامر تضخيم بلا نفع لكرة الثلج المتدحرجة، لكن المراقب لا يجد مؤشرات على تلك الأفكار على ارض الواقع.
وبرغم ان وزارة التخطيط لا تتوفر على مؤشرات إحصائية عن إنتاجية الموظف العراقي، الا ان عبد الزهرة الهنداوي يستند الى تقديرات بعض مراكز البحوث التي توصلت الى ان إنتاجية الموظف العراقي لا تزيد حتماً عن نصف ساعة من مجموع ست ساعات دوام رسمي يوميا
اعتاد مراجعو اغلب الدوائر الحكومية سماع اعذار محبطة ومتكررة: "راجعنا بعد أسبوع.." ، أو "الموظف المختص غير موجود" ، أو "هناك نقص في الأوراق والمستمسكات والوثائق "، او "هناك مناسبة دينية غيبت عشرات من موظفي الدائرة"، إضافة الى عراقيل روتينية معاصرة مثل: "انتظار كتاب صحة الصدور" ،أو ان ( الدِسك) القرص الخاص بالمعاملة لم يصل الى دائرتنا حتى الآن!.. الخ
وبرغم توفر أجهزة الكومبيوتر في اغلب دوائر الدولة الا انها قليلا ما تكون فعالة وتجد من يستثمر خدماتها من الموظفين بخبرة وكفاءة،
وينبه معنيون الى ان أداء أكثر دوائر الدولة لا يُحكم بتوقيت او ضوابط، بل غالبا ما يتبع مزاجية الموظف واجتهاده، كما ذكر الأستاذ الجامعي عزيز جبر، الذي أشار في حديثه لإذاعة العراق الحر الى اعتماد اغلب دول العالم أنظمة سيطرة إدارية تأخذ بالحسبان عامل الوقت والدقة لضبط المعاملة وانجازها بصورة شفافة لا تحتمل اللبس ولا للفساد
ما العمل؟ والبطالة المقنعة تنعش الفساد الإداري
وبرغم بعض الاستثناءات فان بيئة الوظيفة الحكومية أنعشت ظواهر خطيرة، كالوساطة والمحسوبية والرشوة والاختلاس والتسلط من قبل فرد أو فئة محدودة. والتمادي بتعيين اعداد من الموظفين بدون كفاءة بل إرضاءً لاعتبارات سياسية وفئوية.
لا يُنكر أن بعضَ المراجعين ونتيجة عدم ادراكهم للضوابط الإدارية والقانونية وغياب المعلومات عن سير العمل، يتسببون بخلخلة الأجواء والتأثير على الموظفين تحقيقا لأغراضهم، وبهذا الشأن يشدد الحقوقي هافال وهاب من دهوك على اعتماد الشفافية في مؤسسات الدولة، وان يكون المسؤول الأعلى مرنا في تقبل النقد ومعالجة الأخطاء والقصور بسرعة وحكمة.
يقترح الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطوان تطوير القطاع الخاص وحمايته وتنشيط قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة كأحد سبل ترشيق جهاز الدولة وامتصاص الاعداد الهائلة من الشباب الذين أتخمت بهم الدوائر الحكومية، فضلا
عن مكافحة التسيب الإداري، وضياع الوقت، وضعف الإنتاجية وغياب التنسيق وعدم وجود تنظيم قانوني وقواعد عامة لممارسة الإدارة، ويخلص أنطوان خلال حديثه لإذاعة العراق الحر الى ان بإمكان مؤسسات الدولة ان تعمل بكفاءة ودقة بعُشر عديد موظفيها الحاليين إذا ما جرى انتقاؤهم وفق الكفاءة والمعرفة، وتأهيلهم على استخدام التقنيات الحديثة في العمل والإدارة، وبهذا يمكن للبلد ان يستثمر كثيرا في الفائض من الموازنة التشغيلية التي تأكل نحو 70% من الموازنة العامة والتي يتوفر جُلها من الموارد النفطية.
وبرغم تكرار بعض هذه الافكار، مازال المسؤولون الحكوميون يلوّحون بخطط فعالة لتطوير القدرات الإدارية والبشرية للمؤسسة العراقية، في حين يبرهن الكثير من العراقيين في ذات الوقت على صواب المثل الشعبي القائل "
صاحب الحاجة اعمى" ! اذ يتطير بعضهم من الاجراءات القانونية ويميل الى كسر النظام والتحايل على القانون وعدم الانصياع له حتى في حركته اليومية، ويبحث بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة عن الطريقة التي تؤدي إلى حصوله على الخدمة المطلوبة وتحقيق مراده حتى ولو أدى إلى دفع الرشوة، أو اللجوء إلى المعارف والمحسوبية.
برغم ذلك فليس من الانصاف ان نستثني بعضا من موظفي الدوائر الحكومية الذين يبذلون جهدا استثنائيا في عملهم ويتميزون بحرص ومسؤولية وكفاءة في انجاز مهماتهم وتسهيل معاملات مراجعيهم.