ليس هناك أشد وطأة، وأكثر وجعاً من أن يعود المغترب الى وطنه بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الغياب والألم والأمل، والأماني الخضر، فلا يجد (لوطنه الصغير) أثراً، ولا لمسقط رأسه موقعاً.. بل ولم يجد حتى إسماً لقريته على الخارطة الجغرافية. فأين إختفت تلك المساحة الشاسعة من أشجار البلوط، وعيون الماء.. والناس، والمدارس، والكنائس.. وأين راح كل ذلك الجمال، وكل تلك الذكريات الطفولية؟
هذه ليست مقدمة لقصة قصيرة.. ولا هي مقطعاً منقولاً من فصول رواية حزينة أبدع فيها كاتبها .. ولا مطلعاً لقصيدة شعرية مترجمة.. بل واقعة حقيقية عاشها الإعلامي العراقي المغترب منصور السناطي بكل وجعها وألمها العنيف.. وقد روى تفاصيلها عبر اللقاء الذي أجراه معه برنامج (مو بعيدين)، قائلاً:
"قرية السناط، هي قرية عراقية مسيحية تقع على مقربة من زاخو.. كانت عائديتها الإدارية آنذاك لمحافظة الموصل .. ثم تحولت ( إدارياً ) لمحافظة دهوك.. ولا أبالغ لو قلت بأن ( السناط ) واحدة من أجمل ماخلق الله على الطبيعة. فهي قطعة من الجمال.. وواحة من الحب.. تحيطها أشجار البلوط من كل حدب وصوب .. فيها مناخ مذهل، فهو بارد منعش في الصيف، وثلجي جداً في الشتاء، مما يرشح هذه القرية الخرافية لأن تكون منتجعاً سياحياً رائعاً في العراق. ولجمالها الساحر، فقد زارها الملك غازي رحمه الله، وقضى فيها يوماً وليلة.. في هذه القرية ولدتُ قبل ست وخمسين سنة.. كما ولد فيها كل أهلي، وأبناء عمومتي .. قضيت ثلاث سنوات في مدرستها الإبتدائية .. ونظراً للظروف العسكرية المعروفة آنذاك، فقد أكملت صفوف الدراسة الإبتدائية في الموصل، ثم ننتقل عام 1969 الى بغداد، لأكمل دراستي فيها .. لكننا غادرنا العراق متوجهين الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980 وانا طالب في الصف الأخير من الدراسة في كلية الإدارة والإقتصاد".
كان منصور السناطي يتحدث بوجع، وألم واضحين، حتى أني مازحته أكثر من مرة كي أخفف عنه نبرة الحزن الممزوجة مع مفرداته .. ولا أكشف سراً لو قلت بأني أعدت تسجيل بعض المقاطع من هذا اللقاء أكثر من مرة، لأن صوته كان مختنقاً، وحنجرته فيها مجروحة. ولعل السؤال الذي أوحعه كثيراً، كان عن عودته في عام 2009 الى العراق ليشارك ضمن المؤتمر الذي أقامته وزارة الرياضة و الشباب للكفاءات الرياضية والإعلامية في الخارج، وعن إنطباعاتهه عن العراق الجديد ..وهل ذهب الى أهله، وأقاربه .. ومسقط رأسه السناط؟ فقال السناطي:
"بقيت في بغداد طيلة أيام الرحلة، ولم أذهب الى قريتي السناط، لسبب بسيط، لكنه كبير حتماً : هو أن قرية السناط أزيلت تماماً عن الأرض، ولم يبق لها أي أثر في الوجود.. لقد علمت بأن النظام الدكتاتوري السابق، وفي واحدة من حماقاته المعروفة جرف بجرافاته الوحشية خمسمائة قرية عراقية، بعضها قرى مسيحية، وأخرى كردية. ولم يترك لنا الحاقدون فرصة لألتقاط أشيائنا الصغيرة، وصورنا البعيدة. تصوَّر أنهم لم يبقوا لنا مدرسة، ولا كنيسة، ولا شجرة بلوط، ولا عين ماء. لقد جرفوا جميع القرى هناك.. فجرفوا معها كل ذكريات طفولتنا.. لذلك لم أذهب الى قرية السناط، لأنها لم تعد هناك .. فلمن أذهب بعد؟".
وعن رحلته في قطار الإعلام، تحدث السناطي لبرنامج (مو بعيدين( قائلاً:
"قبل مجيئي الى أمريكا لم أحترف العمل الإعلامي قط. كما لم أدرسه أكاديمياً .. إنما كنت طالباً في كلية الإدارة والإقتصاد - كما ذكرت لكم قبل قليل - لكن حبي الكبير للإعلام، وحاجتنا الماسة في هذا المهجر البعيد لأيصال صوتنا العراقي دفعني للإتصال ببعض الكتاب والمثقفين العراقيين في الولايات المتحدة فتجمعنا تحت مطبوع أخذ في البدء شكل جريدة بأربع صفحات، أسميناه ( الإختيار ) ثم تحول هذا المطبوع الصغير الى مجلة، وأستمرت بالصدور لسنتين متتاليتين دون توقف.. لكن ضعف الحالة المادية، وعدم وجود التمويل الكافي أجبرنا على التوقف .. علماً بأننا تلقينا آنذاك عرضاً من السفارة العراقية في الولايات المتحدة لدعم هذه المجلة مادياً ومعنوياً، لكننا رفضنا ذلك العرض. لأننا نرفض أن نضع يدنا في يد نظام ديكتاتوري قتل أبناء شعبنا العراقي، وشرَّد الملايين من العراقيين النجباء.. لاسيما وأن أغلب العاملين في هذه المجلة، كانوا من العراقيين المضطهدين، والهاربين من جور النظام الدكتاتوري .. بعد توقف مجلة الإختيار ، بادرنا أنا والأخ المحامي جلال إيليا لإصدار مجلة ( المعرفة )، وقد كانت مجلة جيدة، لكنها توقفت لعدم توفر التمويل اللازم لإستمرار إصدارها .. بعدها أصدر البروفسور حنا قلابات مجلة ( الكلمة )، وقد كنت أعد وأطبع كل محتوياتها.. وبعد فترة توقفت هذه المجلة أيضاً لنفس الأسباب السابقة. وقد كانت مجلة ( فينوس) التي أصدرتها قبل تسع سنوات، ومازالت مسمرة على الصدور هي آخر المطبوعات التي أصدرتها في الولايات المتحدة الأمريكية .. وأظن بأن سبب نجاحها، وإستمرارها يعود لمساهمة وإشتراك عدد كبير من الكتاب العراقيين المعروفين في تحرير موادها، ودعمها بالمقالات المهمة أولاً.. وثانياً لأن هذه المجلة تطبع في المطبعة التي أملكها شخصياً. وبهذا فقد تخلصنا من أجور تكاليف الطباعة الباهضة.. الأمر الذي جعل لمجلة ( فينوس ) هذه الديمومة، وهذا التواصل لتسع سنوات متتالية" ...
وفي هذا اللقاء تحدث الإعلامي منصور السناطي عن مؤتمر الكفاءات الرياضية والإعلامية الذي أقيم في العراق نهاية عام 2009، وعن مصير القرارات التي أتخذت آنذاك، وماذا تحقق منها.. كما تحدث عن الرياضيين العراقيين في الولايات المتحدة وإنجازاتهم الرياضية البارزة. فضلاً عن معاناتهم، وحاجتهم لدعم الحكومة العراقية. وتحدث أيضاً عن ضرورة إلتفات الحكومة العراقية للصحفيين العراقيين في الخارج . لاسيما وأن لأغلبهم تأريخاً وطنياً باهراً.. ومنهم من يعيش الآن ظروفاً صحية ومعيشية صعبة وقاسية.
وفي الختام، تمنى السناطي أن يعود يوماً الى العراق ليغفو لحظة واحدة تحت ظل شجرة من أشجار البلوط في قرية السناط.
مزيد من التفاصيل في الملف الصوتي.
هذه ليست مقدمة لقصة قصيرة.. ولا هي مقطعاً منقولاً من فصول رواية حزينة أبدع فيها كاتبها .. ولا مطلعاً لقصيدة شعرية مترجمة.. بل واقعة حقيقية عاشها الإعلامي العراقي المغترب منصور السناطي بكل وجعها وألمها العنيف.. وقد روى تفاصيلها عبر اللقاء الذي أجراه معه برنامج (مو بعيدين)، قائلاً:
"قرية السناط، هي قرية عراقية مسيحية تقع على مقربة من زاخو.. كانت عائديتها الإدارية آنذاك لمحافظة الموصل .. ثم تحولت ( إدارياً ) لمحافظة دهوك.. ولا أبالغ لو قلت بأن ( السناط ) واحدة من أجمل ماخلق الله على الطبيعة. فهي قطعة من الجمال.. وواحة من الحب.. تحيطها أشجار البلوط من كل حدب وصوب .. فيها مناخ مذهل، فهو بارد منعش في الصيف، وثلجي جداً في الشتاء، مما يرشح هذه القرية الخرافية لأن تكون منتجعاً سياحياً رائعاً في العراق. ولجمالها الساحر، فقد زارها الملك غازي رحمه الله، وقضى فيها يوماً وليلة.. في هذه القرية ولدتُ قبل ست وخمسين سنة.. كما ولد فيها كل أهلي، وأبناء عمومتي .. قضيت ثلاث سنوات في مدرستها الإبتدائية .. ونظراً للظروف العسكرية المعروفة آنذاك، فقد أكملت صفوف الدراسة الإبتدائية في الموصل، ثم ننتقل عام 1969 الى بغداد، لأكمل دراستي فيها .. لكننا غادرنا العراق متوجهين الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980 وانا طالب في الصف الأخير من الدراسة في كلية الإدارة والإقتصاد".
كان منصور السناطي يتحدث بوجع، وألم واضحين، حتى أني مازحته أكثر من مرة كي أخفف عنه نبرة الحزن الممزوجة مع مفرداته .. ولا أكشف سراً لو قلت بأني أعدت تسجيل بعض المقاطع من هذا اللقاء أكثر من مرة، لأن صوته كان مختنقاً، وحنجرته فيها مجروحة. ولعل السؤال الذي أوحعه كثيراً، كان عن عودته في عام 2009 الى العراق ليشارك ضمن المؤتمر الذي أقامته وزارة الرياضة و الشباب للكفاءات الرياضية والإعلامية في الخارج، وعن إنطباعاتهه عن العراق الجديد ..وهل ذهب الى أهله، وأقاربه .. ومسقط رأسه السناط؟ فقال السناطي:
"بقيت في بغداد طيلة أيام الرحلة، ولم أذهب الى قريتي السناط، لسبب بسيط، لكنه كبير حتماً : هو أن قرية السناط أزيلت تماماً عن الأرض، ولم يبق لها أي أثر في الوجود.. لقد علمت بأن النظام الدكتاتوري السابق، وفي واحدة من حماقاته المعروفة جرف بجرافاته الوحشية خمسمائة قرية عراقية، بعضها قرى مسيحية، وأخرى كردية. ولم يترك لنا الحاقدون فرصة لألتقاط أشيائنا الصغيرة، وصورنا البعيدة. تصوَّر أنهم لم يبقوا لنا مدرسة، ولا كنيسة، ولا شجرة بلوط، ولا عين ماء. لقد جرفوا جميع القرى هناك.. فجرفوا معها كل ذكريات طفولتنا.. لذلك لم أذهب الى قرية السناط، لأنها لم تعد هناك .. فلمن أذهب بعد؟".
وعن رحلته في قطار الإعلام، تحدث السناطي لبرنامج (مو بعيدين( قائلاً:
"قبل مجيئي الى أمريكا لم أحترف العمل الإعلامي قط. كما لم أدرسه أكاديمياً .. إنما كنت طالباً في كلية الإدارة والإقتصاد - كما ذكرت لكم قبل قليل - لكن حبي الكبير للإعلام، وحاجتنا الماسة في هذا المهجر البعيد لأيصال صوتنا العراقي دفعني للإتصال ببعض الكتاب والمثقفين العراقيين في الولايات المتحدة فتجمعنا تحت مطبوع أخذ في البدء شكل جريدة بأربع صفحات، أسميناه ( الإختيار ) ثم تحول هذا المطبوع الصغير الى مجلة، وأستمرت بالصدور لسنتين متتاليتين دون توقف.. لكن ضعف الحالة المادية، وعدم وجود التمويل الكافي أجبرنا على التوقف .. علماً بأننا تلقينا آنذاك عرضاً من السفارة العراقية في الولايات المتحدة لدعم هذه المجلة مادياً ومعنوياً، لكننا رفضنا ذلك العرض. لأننا نرفض أن نضع يدنا في يد نظام ديكتاتوري قتل أبناء شعبنا العراقي، وشرَّد الملايين من العراقيين النجباء.. لاسيما وأن أغلب العاملين في هذه المجلة، كانوا من العراقيين المضطهدين، والهاربين من جور النظام الدكتاتوري .. بعد توقف مجلة الإختيار ، بادرنا أنا والأخ المحامي جلال إيليا لإصدار مجلة ( المعرفة )، وقد كانت مجلة جيدة، لكنها توقفت لعدم توفر التمويل اللازم لإستمرار إصدارها .. بعدها أصدر البروفسور حنا قلابات مجلة ( الكلمة )، وقد كنت أعد وأطبع كل محتوياتها.. وبعد فترة توقفت هذه المجلة أيضاً لنفس الأسباب السابقة. وقد كانت مجلة ( فينوس) التي أصدرتها قبل تسع سنوات، ومازالت مسمرة على الصدور هي آخر المطبوعات التي أصدرتها في الولايات المتحدة الأمريكية .. وأظن بأن سبب نجاحها، وإستمرارها يعود لمساهمة وإشتراك عدد كبير من الكتاب العراقيين المعروفين في تحرير موادها، ودعمها بالمقالات المهمة أولاً.. وثانياً لأن هذه المجلة تطبع في المطبعة التي أملكها شخصياً. وبهذا فقد تخلصنا من أجور تكاليف الطباعة الباهضة.. الأمر الذي جعل لمجلة ( فينوس ) هذه الديمومة، وهذا التواصل لتسع سنوات متتالية" ...
وفي هذا اللقاء تحدث الإعلامي منصور السناطي عن مؤتمر الكفاءات الرياضية والإعلامية الذي أقيم في العراق نهاية عام 2009، وعن مصير القرارات التي أتخذت آنذاك، وماذا تحقق منها.. كما تحدث عن الرياضيين العراقيين في الولايات المتحدة وإنجازاتهم الرياضية البارزة. فضلاً عن معاناتهم، وحاجتهم لدعم الحكومة العراقية. وتحدث أيضاً عن ضرورة إلتفات الحكومة العراقية للصحفيين العراقيين في الخارج . لاسيما وأن لأغلبهم تأريخاً وطنياً باهراً.. ومنهم من يعيش الآن ظروفاً صحية ومعيشية صعبة وقاسية.
وفي الختام، تمنى السناطي أن يعود يوماً الى العراق ليغفو لحظة واحدة تحت ظل شجرة من أشجار البلوط في قرية السناط.
مزيد من التفاصيل في الملف الصوتي.