خالد القشطيني
من المشاهد التي لفتت نظري و خلدت في ذاكرتي خلال زيارتي لقلعة صالح في جنوب العراق في الخمسينات، مشهد كشف لي عن العلاقة الوطيدة بين شيخ العشيرة و افراد عشيرته.
لم يكن هناك اي مغنين محترفين في الحفلة التي دعتنا اليها الشيخة ساعة. و انما كانت هناك شلة من افراد العشيرة ممن وهبهم الله صوتا رخيما و اذنا موسيقية.راحوا يغنون و يرتجلون الاغنيات واحدا بعد الآخر ، و على هواهم. كانت كلها اغاني حزينة. لكن احد المغنين تمادى في الحزن حتى تحولت الاغنية عنده الى رثاء و عزاء . ما انفك الا و تفجر في بكاء مرير.
انهالوا عليه بالضرب و الركل و رموا به خارج المجلس. " يا ابن الكلب تقعد تنحب على شيخ محسن و تقلب الفرح عزا قدام القيمقام؟ روح ارجع لأهلك." تقدم السركال ليعتذر لأخي احسان ، القائمقام ، بأن ذلك المغني كان ينتمي الى عشيرة اخرى فقدت شيخها محسن قبل سنوات. و اهاجت ذكراه مشاعر المغني بدون سبب فانفجر باكيا.
على الطرف الآخر من منطقة الاهوار، وقعت ناحية المدينة، التي تسلم اخي احسان ادارتها. لم يكن في مدينة المدينة اي كهرباء، او ماء نقي او إضاءة غير فانوس نفطي كانوا يعلقونه امام بيت مدير الناحية كرمز لهيبة الحكومة.عاد إحسان ذات ليلة فوجد الفانوس مطفأ فاستشاط غضبا و تصور ان انقلابا قد حصل في البلاد، فنادى على كاتب الناحية و معلم المدرسة و عريف الشرطة و البوسطجي. فخرجوا بدشداشاتهم تاركين وراءهم زوجاتهم يبتهلن الى الله تعالى ان تمر الازمة بسلام و لا يسجن مدير الناحية كل ازواجهن و يتركهن فريسة للرايح و الجاي. بادرهم غاضبا: " ليش الفانوس مطفي اليوم؟ الحكومة ماتت؟"
اجابه كاتب الناحية بإضطراب:" سيدي مدير الناحية السابق الاستاذ فاضل، امر بأن نقتصد بالنفط و ما نشعل الفانوس لما يكون اكو قمر قوي بالسما." امر احسان بإلغاء الأمر السابق و ان يستبدل به امر جديد. . "من الآن و صاعدا، اكو قمر ماكو قمر بالسما، الفانوس لازم يشتعل." انا واثق الآن ، عندما سيكتبون تاريخ العراق الحديث سيذكرون هذه المأثرة لأخي فيقولون انه في عهد احسان القشطيني جرت اصلاحات مهمة في ناحية المدينة كان منها ايقاد فانوس المدينة في الليالي المقمرة ايضا بالإضافة لليالي المظلمة. رويت ذلك لوالدتي رحمه الله بما قام به ابنها في المدينة فقالت في حسرة و اسى: " معلوم. اخوك إحسان الله خالقة على التبذير و الصرف. اذا كان يخلي الراديوبشتغل الليل كله وهو نايم يشوخر، ليش ما يشعل الفانوس و اكو قمر نشيط بالسما!"
بيد ان الإصلاح الاكبر الذي قام به احسان في ناحية المدينة كان في تغيير، الزورق التقليدي المعروف بالمشحوف بالزورق الآلي الماطور.
كانت المدينة تقع في وسط الاهوار و لا ترتبط بأي طريق بري للسيارات او الجمال او الحمير. اتصالها الوحيد بالعالم الخارجي كان يتم مائيا بالمشاحيف.
و يظهر ان احسان اعتبر جلوس المدير في مشحوف عملا مخلا بكرامته و هيبة الدولة، فاستطاع ان يقنع متصرفية البصرة بشراء ماطور للمدينة. و اصبح هذا عجبة من عجائب الزمان و منظرا يستأسر بالألباب. ما ان سمع صوت المحرك قادما من بعيد ... طط...طط...طط حتى خرجت فتيات المدينة و اطفالها وشيوخها للتفرج عليه يشق عباب مياه الهور بقوة الخالق. و لم يكن الجاموس اقل استجابة للتحديث و العصرنة. ما ان سمعت بمجيء الماطور حتى اسرعت سباحة نحو مجراه للتفرج عليه. وقد عجز عريف الشرطة عن تعليم الجاموس قواعد المرور فكانت تتكأكأ برؤوسها و قرونها الضخمة امام الماطور فتحول دون تقدمه، مما اضطر الشرطة الى الاستنجاد ببقية افراد الحكومة، البوسطجي و الحارس و المضمد الصحي و معلم المدرسة. كانوا يقفون بعصا طويلة ليدفعوا الجاموس بعيدا عن ماطور مدير الناحية. بيد ان الاختلاف بين سرعة الماطور و سرعة الجاموس ادى الى كثير من الحوادث المؤسفة بحيث ان شرطة المدينة تعتزالآن بتسجيل الحادثة الوحيدة من نوعها في العالم وهي حادثة اصطدام بين جاموسة و ماطور ابو اللولة.
من المشاهد التي لفتت نظري و خلدت في ذاكرتي خلال زيارتي لقلعة صالح في جنوب العراق في الخمسينات، مشهد كشف لي عن العلاقة الوطيدة بين شيخ العشيرة و افراد عشيرته.
لم يكن هناك اي مغنين محترفين في الحفلة التي دعتنا اليها الشيخة ساعة. و انما كانت هناك شلة من افراد العشيرة ممن وهبهم الله صوتا رخيما و اذنا موسيقية.راحوا يغنون و يرتجلون الاغنيات واحدا بعد الآخر ، و على هواهم. كانت كلها اغاني حزينة. لكن احد المغنين تمادى في الحزن حتى تحولت الاغنية عنده الى رثاء و عزاء . ما انفك الا و تفجر في بكاء مرير.
انهالوا عليه بالضرب و الركل و رموا به خارج المجلس. " يا ابن الكلب تقعد تنحب على شيخ محسن و تقلب الفرح عزا قدام القيمقام؟ روح ارجع لأهلك." تقدم السركال ليعتذر لأخي احسان ، القائمقام ، بأن ذلك المغني كان ينتمي الى عشيرة اخرى فقدت شيخها محسن قبل سنوات. و اهاجت ذكراه مشاعر المغني بدون سبب فانفجر باكيا.
على الطرف الآخر من منطقة الاهوار، وقعت ناحية المدينة، التي تسلم اخي احسان ادارتها. لم يكن في مدينة المدينة اي كهرباء، او ماء نقي او إضاءة غير فانوس نفطي كانوا يعلقونه امام بيت مدير الناحية كرمز لهيبة الحكومة.عاد إحسان ذات ليلة فوجد الفانوس مطفأ فاستشاط غضبا و تصور ان انقلابا قد حصل في البلاد، فنادى على كاتب الناحية و معلم المدرسة و عريف الشرطة و البوسطجي. فخرجوا بدشداشاتهم تاركين وراءهم زوجاتهم يبتهلن الى الله تعالى ان تمر الازمة بسلام و لا يسجن مدير الناحية كل ازواجهن و يتركهن فريسة للرايح و الجاي. بادرهم غاضبا: " ليش الفانوس مطفي اليوم؟ الحكومة ماتت؟"
اجابه كاتب الناحية بإضطراب:" سيدي مدير الناحية السابق الاستاذ فاضل، امر بأن نقتصد بالنفط و ما نشعل الفانوس لما يكون اكو قمر قوي بالسما." امر احسان بإلغاء الأمر السابق و ان يستبدل به امر جديد. . "من الآن و صاعدا، اكو قمر ماكو قمر بالسما، الفانوس لازم يشتعل." انا واثق الآن ، عندما سيكتبون تاريخ العراق الحديث سيذكرون هذه المأثرة لأخي فيقولون انه في عهد احسان القشطيني جرت اصلاحات مهمة في ناحية المدينة كان منها ايقاد فانوس المدينة في الليالي المقمرة ايضا بالإضافة لليالي المظلمة. رويت ذلك لوالدتي رحمه الله بما قام به ابنها في المدينة فقالت في حسرة و اسى: " معلوم. اخوك إحسان الله خالقة على التبذير و الصرف. اذا كان يخلي الراديوبشتغل الليل كله وهو نايم يشوخر، ليش ما يشعل الفانوس و اكو قمر نشيط بالسما!"
بيد ان الإصلاح الاكبر الذي قام به احسان في ناحية المدينة كان في تغيير، الزورق التقليدي المعروف بالمشحوف بالزورق الآلي الماطور.
كانت المدينة تقع في وسط الاهوار و لا ترتبط بأي طريق بري للسيارات او الجمال او الحمير. اتصالها الوحيد بالعالم الخارجي كان يتم مائيا بالمشاحيف.
و يظهر ان احسان اعتبر جلوس المدير في مشحوف عملا مخلا بكرامته و هيبة الدولة، فاستطاع ان يقنع متصرفية البصرة بشراء ماطور للمدينة. و اصبح هذا عجبة من عجائب الزمان و منظرا يستأسر بالألباب. ما ان سمع صوت المحرك قادما من بعيد ... طط...طط...طط حتى خرجت فتيات المدينة و اطفالها وشيوخها للتفرج عليه يشق عباب مياه الهور بقوة الخالق. و لم يكن الجاموس اقل استجابة للتحديث و العصرنة. ما ان سمعت بمجيء الماطور حتى اسرعت سباحة نحو مجراه للتفرج عليه. وقد عجز عريف الشرطة عن تعليم الجاموس قواعد المرور فكانت تتكأكأ برؤوسها و قرونها الضخمة امام الماطور فتحول دون تقدمه، مما اضطر الشرطة الى الاستنجاد ببقية افراد الحكومة، البوسطجي و الحارس و المضمد الصحي و معلم المدرسة. كانوا يقفون بعصا طويلة ليدفعوا الجاموس بعيدا عن ماطور مدير الناحية. بيد ان الاختلاف بين سرعة الماطور و سرعة الجاموس ادى الى كثير من الحوادث المؤسفة بحيث ان شرطة المدينة تعتزالآن بتسجيل الحادثة الوحيدة من نوعها في العالم وهي حادثة اصطدام بين جاموسة و ماطور ابو اللولة.