خالد القشطيني – لندن
كنا في العهد الملكي، أو ما شاء الثوريون أن يسموه بالعهد البائد، نتهم المسؤولين بسرقة أموال الدولة وأموال الشعب. هكذا كنا نتصور. ولكن ثورة 14 تموز عام 1958 كشفت عن نقيض ذلك تماما. فتش رجال العهد الجمهوري كل حسابات المسؤولين السابقين وكل ملفات الدولة وحساباتها ولم يعثروا على أي شيء ينطوي على الاختلاس أو السرقة. بل وأكثر من ذلك، وجدوا حرصا عظيما على دقة الحسابات ومحاسبة الوزراء والمسؤولين والموظفين.
هناك كثير من الوقائع والحكايات التي دلت على ذلك، وسبق لي أن أوردت الكثير منها في هذه السلسلة. ولا شك أن بعض المستمعين الكرام يتذكرون شيئا مما ذكرت، بل وأكثر من ذلك ربما يعرفون شخصيا المزيد منها.
وما زلنا نسمع ونطلع على بعض مآثر تلك الأيام، أيام الخير، أيام العهد الملكي. وكان مما سمعته مؤخرا ما رواه لي صديقي الدبلوماسي العراقي السابق والمؤرخ الفاضل نجدة فتحي صفوة.
كان أبو عايدة، قائم أعمال السفارة العراقية في القاهرة عندما كان الأستاذ نجيب الراوي سفيرا هناك. لم تكن في الخمسينات علاقات دبلوماسية بين العراق وأثيوبيا، أو الحبشة كما كنا نسميها. ورأت الحكومة العراقية أن الوقت قد آن للتبادل الدبلوماسي مع أديس أبابا. وكانت أثيوبيا عندئذ يحكمها الإمبراطور هيلا سلاسي، واستعادت استقلالها وسيادتها بعد تحررها من الاستعمار الإيطالي خلال الحرب العالمية الثانية وسقوط موسوليني.
بيد أن الحكومة العراقية في حرصها على الاقتصاد في الميزانية ونفقات وزارة الخارجية قررت أن تحرص على حصر تمثيلها في أثيوبيا في إطار شكلي. لم تكن بين العراق وأديس أبابا أي نشاطات اقتصادية أو مصالح تقتضي وجود سفارة هناك. قررت وزارة الخارجية أن تعهد لسفيرها في القاهرة نجيب الراوي أن يقوم بتمثيل العراق في أثيوبيا بالإضافة لوظيفته الدبلوماسية في القاهرة.
جرت الترتيبات وسافر الأستاذ نجيب الراوي مع زميله الأستاذ نجدة فتحي صفوة إلى أثيوبيا. وجرى حفل تقديم الأوراق للإمبراطور هيلا سلاسي كما تقتضي المراسيم الدبلوماسية المرعية. بقي في أثيوبيا لعدة أيام تعرف خلالها بالمسؤولين في الحكومة الأثيوبية ثم ركب الطيارة عائدا إلى مقره الأساسي في مصر.
بالطبع قام محاسب السفارة بتنظيم حسابات تكاليف تلك السفرة والإقامة في العاصمة الأثيوبية حسب ما اقتضته الأصول. بعث بتفاصيل التكاليف إلى وزارة الخارجية مع الوصولات والوثائق المتعلقة بالسفرة. ولكن السفير نجيب الراوي فوجئ برد فاتورة واحدة، وكانت تتعلق باستئجار سيارة ليموزين محترمة لنقل السفير من مقامه في الفندق إلى البلاط الإمبراطوري لتقديم أوراقه. مسألة غريبة! لماذا رفضت هذه الفاتورة؟ وكان هذا هو السؤال الذي طرحه السيد السفير على الحسابات في بغداد. وجاءه الجواب بأن وزارة الخارجية تدفع للسفير تكاليف سيارته في القاهرة، على اعتبارها سيارة السفير. ولا يجوز له أن يطالب بتكاليف سيارة أخرى بالإضافة لها. واضطر نجيب الراوي أن يتحمل تكاليف السيارة في أثيوبيا من جيبه الخاص. وكانت في الواقع في مهمة رسمية تتعلق بتقديم أوراقه للإمبراطور.
نعجب في هذه الأيام عن رد مثل هذا الرد ودقة بمثل هذه الدقة في الحرص على أموال الدولة وحساباتها. ولكن هكذا كانت تجري الأمور في تلك الأيام، أيام الخير.
كنا في العهد الملكي، أو ما شاء الثوريون أن يسموه بالعهد البائد، نتهم المسؤولين بسرقة أموال الدولة وأموال الشعب. هكذا كنا نتصور. ولكن ثورة 14 تموز عام 1958 كشفت عن نقيض ذلك تماما. فتش رجال العهد الجمهوري كل حسابات المسؤولين السابقين وكل ملفات الدولة وحساباتها ولم يعثروا على أي شيء ينطوي على الاختلاس أو السرقة. بل وأكثر من ذلك، وجدوا حرصا عظيما على دقة الحسابات ومحاسبة الوزراء والمسؤولين والموظفين.
هناك كثير من الوقائع والحكايات التي دلت على ذلك، وسبق لي أن أوردت الكثير منها في هذه السلسلة. ولا شك أن بعض المستمعين الكرام يتذكرون شيئا مما ذكرت، بل وأكثر من ذلك ربما يعرفون شخصيا المزيد منها.
وما زلنا نسمع ونطلع على بعض مآثر تلك الأيام، أيام الخير، أيام العهد الملكي. وكان مما سمعته مؤخرا ما رواه لي صديقي الدبلوماسي العراقي السابق والمؤرخ الفاضل نجدة فتحي صفوة.
كان أبو عايدة، قائم أعمال السفارة العراقية في القاهرة عندما كان الأستاذ نجيب الراوي سفيرا هناك. لم تكن في الخمسينات علاقات دبلوماسية بين العراق وأثيوبيا، أو الحبشة كما كنا نسميها. ورأت الحكومة العراقية أن الوقت قد آن للتبادل الدبلوماسي مع أديس أبابا. وكانت أثيوبيا عندئذ يحكمها الإمبراطور هيلا سلاسي، واستعادت استقلالها وسيادتها بعد تحررها من الاستعمار الإيطالي خلال الحرب العالمية الثانية وسقوط موسوليني.
بيد أن الحكومة العراقية في حرصها على الاقتصاد في الميزانية ونفقات وزارة الخارجية قررت أن تحرص على حصر تمثيلها في أثيوبيا في إطار شكلي. لم تكن بين العراق وأديس أبابا أي نشاطات اقتصادية أو مصالح تقتضي وجود سفارة هناك. قررت وزارة الخارجية أن تعهد لسفيرها في القاهرة نجيب الراوي أن يقوم بتمثيل العراق في أثيوبيا بالإضافة لوظيفته الدبلوماسية في القاهرة.
جرت الترتيبات وسافر الأستاذ نجيب الراوي مع زميله الأستاذ نجدة فتحي صفوة إلى أثيوبيا. وجرى حفل تقديم الأوراق للإمبراطور هيلا سلاسي كما تقتضي المراسيم الدبلوماسية المرعية. بقي في أثيوبيا لعدة أيام تعرف خلالها بالمسؤولين في الحكومة الأثيوبية ثم ركب الطيارة عائدا إلى مقره الأساسي في مصر.
بالطبع قام محاسب السفارة بتنظيم حسابات تكاليف تلك السفرة والإقامة في العاصمة الأثيوبية حسب ما اقتضته الأصول. بعث بتفاصيل التكاليف إلى وزارة الخارجية مع الوصولات والوثائق المتعلقة بالسفرة. ولكن السفير نجيب الراوي فوجئ برد فاتورة واحدة، وكانت تتعلق باستئجار سيارة ليموزين محترمة لنقل السفير من مقامه في الفندق إلى البلاط الإمبراطوري لتقديم أوراقه. مسألة غريبة! لماذا رفضت هذه الفاتورة؟ وكان هذا هو السؤال الذي طرحه السيد السفير على الحسابات في بغداد. وجاءه الجواب بأن وزارة الخارجية تدفع للسفير تكاليف سيارته في القاهرة، على اعتبارها سيارة السفير. ولا يجوز له أن يطالب بتكاليف سيارة أخرى بالإضافة لها. واضطر نجيب الراوي أن يتحمل تكاليف السيارة في أثيوبيا من جيبه الخاص. وكانت في الواقع في مهمة رسمية تتعلق بتقديم أوراقه للإمبراطور.
نعجب في هذه الأيام عن رد مثل هذا الرد ودقة بمثل هذه الدقة في الحرص على أموال الدولة وحساباتها. ولكن هكذا كانت تجري الأمور في تلك الأيام، أيام الخير.