هو ليبرالي ـ علماني، يساري الهوى، وإن كان “وسطياً“ هاديء الطباع، وطيعٌ في الحوار والحديث، رغم الحدَّة التي تطغي على كتاباته، وآرائه.
تعلم من الثنائية العائلية أن لايكون “فردياً“ في كل شيء. عن هذه الثنائية يقول الدكتور نزار أحمد في حديثه لـ“مو بعيدين“: ““ولدت من أب شيعي مولود في قضاء المقدادية، “شهربان”، ومن أم ”سنية” من مدينة “بلدروز” فكان هذان الطيفان العراقيان المسلمان يظللان حياتي، وحياة أخوتي بالمحبة، والإنفتاح والتسامح. ولعل زواجي ـ بعد ربع قرن ـ من "شيعية الأب وسنيةالأم” هو إنعكاس قادم من اللاوعي لتلك الثنائية العائلية الجميلة التي عشنا فيها طفولتنا. وفتوتنا الأولى.
لنزار أحمد نشاط غير محدود في الميادين الأدبية. فقد بدأ بالشعر منذ نعومة أظفاره، ويقول عن هذه الفترة: ولدت في منطقة “العبيدي“ في بغداد، ولأنها منطقة شعبية، فقد كان من الطبيعي أن يتجه أبناؤها الى كرة القدم، أو الشعر، أو الغناء. فكان نصيبي الشعر. وقد بدأتُ كتابته وأنا في الثانية عشرة. فأذكر أني قرأت “قصائدي” لأصحابي الذين كانوا بعمري دون حرج. ولعل الشعراء الكبار أمثال الجواهري والسياب ونزار قباني هم أول من تعلمت منهم الأوزان والعروض وحتى اللغة العربية الشعرية أيضاً. لأني بصراحة كنت ـ ولم أزل ـ معجباً جداً بهؤلاء الشعراء العمالقة.
عن تحوله من عالم الشعر الى عالم الهندسة، يذكر الدكتور نزار أحمد هذه القصة التي وقعت له مع صدام حسين، فيعلق عليها سبب تحوله ذاك، ويقول نزار أحمد: ((كنت طالباً في الصف الخامس العلمي، في ثانوية الكفاح بساحة النهضة، عندما زار الرئيس السادات “اسرائيل“ ولأنني إبنٌ لأبٍ كان عسكرياً في الفوج الذي يقوده الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، وقاتل معه في فلسطين، ولأنني واحد من أبناء ذلك الجيل الذي تشبع بثقافة تلك الأيام، فقد جن جنوني غضباً عند سماعي خبر الزيارة. فكان من الطبيعي أن أعبر عن هذا الغضب بقصيدة نارية. ومن الجدير بالذكر أن العراق قد دعا بعد الزيارة مباشرة الى عقد مؤتمر قمة عربي في بغداد من أجل إتخاذ موقف عربي موحد أزاء هذه الزيارة. فكانت قصيدتي بمثابة رسالة الى الملوك والرؤساء العرب الذين سيحضرون هذه القمة. وأذكر هنا أن مدرس اللغة العربية قد طلب منا أن نكتب موضوعاً إنشائياً عن زيارة السادات، فقدمت تلك القصيدة بدلاً من أن أكتب الموضوع الإنشائي. ويبدو أن القصيدة أعجبت المدرس، فطلبني وقال لي بأنه يقترح نشرها في جريدة ”الثورة” التي كان يرأس تحريرها آنذاك طارق عزيز بخاصة وأن له ـ أي للمدرس ـ علاقة صداقة مع عزيز، فوافقت فوراً، إذ من كان بعمري آنذاك ليرفض مثل هذا الأمر المغري؟ قابلت المدرس في اليوم الثاني، واليوم الثالث في المدرسة أكثر من مرة دون أن يذكر لي شيئاً عن القصيدة، سوى أنه ذكر بأن طارق عزيز مشغول ولم يستطع مقابلته. بعدها نسيت الموضوع)).
أما عن اللقاء الذي تم بينه وبين صدام. فيقول الدكتور نزار ((بعد ثلاثةأيام طلبني مدير المدرسة، وحين دخلت عليه، وجدت شخصاً يجلس عنده. فأخبرني المدير بأن هذا الشخص سيصحبني لمقابلة شخصية مهمة. فتصورت في البداية أنني سأقابل طارق عزيز، لكنني فوجئت بالسيارة تمضي بنا الى مبنى القصر الجمهوري، لحظات وإذا بي وجهاً لوجه مع ""النائب"" صدام حسين. وقد كان معه في المكتب الشاعر الراحل شفيق الكمالي. في البداية سألني صدام بعض الأسئلة الشخصية عن العائلة والعشيرة ومسقط الرأس، ثم سألني عن الشعر، والشعراء الذين أقرأ لهم، فأجبته بما يجب عليَّ أن أجيب. بعدها قال لي: أن قصيدتك جيدة وتحمل مشاعر قومية أصيلة، لكننا لا نستطيع أن نخاطب الملوك والرؤساء العرب ـ وهم ضيوف عندنا ـ بمثل هذه الطريقة الخشنة، وهذا الأسلوب الذي يحمل عتباً قوياً، لذا قررنا أن يتولى الشاعر شفيق الكمالي مسؤولية تصحيح بعض الكلمات في القصيدة لكي تقرأها بنفسك أمام الملوك والرؤساء العرب عند حضورهم الى بغداد قريباً. وقبل أن أقول رأيي في الموضوع، ناولني الكمالي ورقة مكتوب فيها عنوان قصيدتي، لكنني لم أجد فيها بيتاً واحداً من قصيدتي الأصلية، إذ أن الشاعر الكمالي قد غيرَّ القصيدة من البيت الأول الى البيت الأخير. فقلب الموضوع رأساً على عقب. إذ بدلاً من أن أهجو العرب وزعماءهم، وجدت أن القصيدة ترحب بالملوك والرؤساء، أي عكس قصيدتي تماماً، لذلك لم أخف من القول لصدام، بأني لن أقبل بهذه القصيدة، ولن أقرأها. فضحك صدام، وقال لماذا؟ قلت لأن القصيدة ليست قصيدتي، فضلاً عن أنها ذات مستوى شعري كبير لا يتناسب ومستوى طالب ثانوية. فهز صدام رأسه موافقاً ثم حوَّل الحديث الى موضوع آخر. فسألني عن مستواي الدراسي، و ميولي الثقافية، وسبب توجهي نحو الدراسة العلمية. فأخبرته برغبتي في أن أدرس الهندسة النووية. وعندما سألني عن السبب قلت له: لأن اسرائيل تملك سلاحاً نووياً ويجب على العرب أن يملكوا أيضاً مثل هذا السلاح، ثم أنتهى اللقاء مع صدام، لكنني فوجئت بعد أيام قليلة بأحد الحزبيين في المنطقة يطلبني للحضور في المنظمة الحزبية حالاً. وعندما ذهبت هناك وجدت شخصين يحملان معهما حقيبة ذات نوعية ممتازة. فسلماني الحقيبة، بعد أن أخبراني بأنها هدية من "السيد النائب" وعندما فتحتها، وجدت فيها مجموعة من الكتب العلمية المتخصصة بالهندسة النووية، ومظروفاً يحوي على مبلغ 500 دينار عراقي. ومظروفاً آخرا فيه كتاب رسمي موجه من صدام حسين شخصياً الى وزير التعليم العالي، يأمره فيه بمنحي بعثة لدراسة الهندسة النووية في لندن أو أمريكا. وذلك بعد تخرجي من الدراسة الإعدادية. لكنني وجدت في الكتاب الرئاسي، شروطاً أربعة: منها: أن أحصل على معدل يزيد على الثمانين في المائة، وأن أترك الشعر، وأتفرغ للدراسة النووية. وهكذا وضع صدام قدمي على سكة الهندسة، وليس على سكة الشعر، على الرغم من اني لم أذهب في هذه البعثة إلا بعد أن أنهيت الدراسة الجامعية في كلية الهندسة ببغداد، وسبب عدم دراستي الهندسة النووية، هو رفض الوالد أولاً : "ولأني مو بعثي" أيضاً.
نكتفي بهذا القدر من حديث الدكتور نزار أحمد هذا الاسبوع لنستكمل هذه القصة في الأسبوع المقبل، إذ سيحدثنا عن ندسة النووية، والشعر، وعلاقته بكرة القدم، وخصوصاً موضوعه مع حسين سعيد ذلك الموضوع الذي كثر اللغط، والحديث حوله، مكما سيحدثنا عن كتاباته السياسية الحادة.
المزيد في الملف الصوتي
تعلم من الثنائية العائلية أن لايكون “فردياً“ في كل شيء. عن هذه الثنائية يقول الدكتور نزار أحمد في حديثه لـ“مو بعيدين“: ““ولدت من أب شيعي مولود في قضاء المقدادية، “شهربان”، ومن أم ”سنية” من مدينة “بلدروز” فكان هذان الطيفان العراقيان المسلمان يظللان حياتي، وحياة أخوتي بالمحبة، والإنفتاح والتسامح. ولعل زواجي ـ بعد ربع قرن ـ من "شيعية الأب وسنيةالأم” هو إنعكاس قادم من اللاوعي لتلك الثنائية العائلية الجميلة التي عشنا فيها طفولتنا. وفتوتنا الأولى.
لنزار أحمد نشاط غير محدود في الميادين الأدبية. فقد بدأ بالشعر منذ نعومة أظفاره، ويقول عن هذه الفترة: ولدت في منطقة “العبيدي“ في بغداد، ولأنها منطقة شعبية، فقد كان من الطبيعي أن يتجه أبناؤها الى كرة القدم، أو الشعر، أو الغناء. فكان نصيبي الشعر. وقد بدأتُ كتابته وأنا في الثانية عشرة. فأذكر أني قرأت “قصائدي” لأصحابي الذين كانوا بعمري دون حرج. ولعل الشعراء الكبار أمثال الجواهري والسياب ونزار قباني هم أول من تعلمت منهم الأوزان والعروض وحتى اللغة العربية الشعرية أيضاً. لأني بصراحة كنت ـ ولم أزل ـ معجباً جداً بهؤلاء الشعراء العمالقة.
عن تحوله من عالم الشعر الى عالم الهندسة، يذكر الدكتور نزار أحمد هذه القصة التي وقعت له مع صدام حسين، فيعلق عليها سبب تحوله ذاك، ويقول نزار أحمد: ((كنت طالباً في الصف الخامس العلمي، في ثانوية الكفاح بساحة النهضة، عندما زار الرئيس السادات “اسرائيل“ ولأنني إبنٌ لأبٍ كان عسكرياً في الفوج الذي يقوده الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، وقاتل معه في فلسطين، ولأنني واحد من أبناء ذلك الجيل الذي تشبع بثقافة تلك الأيام، فقد جن جنوني غضباً عند سماعي خبر الزيارة. فكان من الطبيعي أن أعبر عن هذا الغضب بقصيدة نارية. ومن الجدير بالذكر أن العراق قد دعا بعد الزيارة مباشرة الى عقد مؤتمر قمة عربي في بغداد من أجل إتخاذ موقف عربي موحد أزاء هذه الزيارة. فكانت قصيدتي بمثابة رسالة الى الملوك والرؤساء العرب الذين سيحضرون هذه القمة. وأذكر هنا أن مدرس اللغة العربية قد طلب منا أن نكتب موضوعاً إنشائياً عن زيارة السادات، فقدمت تلك القصيدة بدلاً من أن أكتب الموضوع الإنشائي. ويبدو أن القصيدة أعجبت المدرس، فطلبني وقال لي بأنه يقترح نشرها في جريدة ”الثورة” التي كان يرأس تحريرها آنذاك طارق عزيز بخاصة وأن له ـ أي للمدرس ـ علاقة صداقة مع عزيز، فوافقت فوراً، إذ من كان بعمري آنذاك ليرفض مثل هذا الأمر المغري؟ قابلت المدرس في اليوم الثاني، واليوم الثالث في المدرسة أكثر من مرة دون أن يذكر لي شيئاً عن القصيدة، سوى أنه ذكر بأن طارق عزيز مشغول ولم يستطع مقابلته. بعدها نسيت الموضوع)).
أما عن اللقاء الذي تم بينه وبين صدام. فيقول الدكتور نزار ((بعد ثلاثةأيام طلبني مدير المدرسة، وحين دخلت عليه، وجدت شخصاً يجلس عنده. فأخبرني المدير بأن هذا الشخص سيصحبني لمقابلة شخصية مهمة. فتصورت في البداية أنني سأقابل طارق عزيز، لكنني فوجئت بالسيارة تمضي بنا الى مبنى القصر الجمهوري، لحظات وإذا بي وجهاً لوجه مع ""النائب"" صدام حسين. وقد كان معه في المكتب الشاعر الراحل شفيق الكمالي. في البداية سألني صدام بعض الأسئلة الشخصية عن العائلة والعشيرة ومسقط الرأس، ثم سألني عن الشعر، والشعراء الذين أقرأ لهم، فأجبته بما يجب عليَّ أن أجيب. بعدها قال لي: أن قصيدتك جيدة وتحمل مشاعر قومية أصيلة، لكننا لا نستطيع أن نخاطب الملوك والرؤساء العرب ـ وهم ضيوف عندنا ـ بمثل هذه الطريقة الخشنة، وهذا الأسلوب الذي يحمل عتباً قوياً، لذا قررنا أن يتولى الشاعر شفيق الكمالي مسؤولية تصحيح بعض الكلمات في القصيدة لكي تقرأها بنفسك أمام الملوك والرؤساء العرب عند حضورهم الى بغداد قريباً. وقبل أن أقول رأيي في الموضوع، ناولني الكمالي ورقة مكتوب فيها عنوان قصيدتي، لكنني لم أجد فيها بيتاً واحداً من قصيدتي الأصلية، إذ أن الشاعر الكمالي قد غيرَّ القصيدة من البيت الأول الى البيت الأخير. فقلب الموضوع رأساً على عقب. إذ بدلاً من أن أهجو العرب وزعماءهم، وجدت أن القصيدة ترحب بالملوك والرؤساء، أي عكس قصيدتي تماماً، لذلك لم أخف من القول لصدام، بأني لن أقبل بهذه القصيدة، ولن أقرأها. فضحك صدام، وقال لماذا؟ قلت لأن القصيدة ليست قصيدتي، فضلاً عن أنها ذات مستوى شعري كبير لا يتناسب ومستوى طالب ثانوية. فهز صدام رأسه موافقاً ثم حوَّل الحديث الى موضوع آخر. فسألني عن مستواي الدراسي، و ميولي الثقافية، وسبب توجهي نحو الدراسة العلمية. فأخبرته برغبتي في أن أدرس الهندسة النووية. وعندما سألني عن السبب قلت له: لأن اسرائيل تملك سلاحاً نووياً ويجب على العرب أن يملكوا أيضاً مثل هذا السلاح، ثم أنتهى اللقاء مع صدام، لكنني فوجئت بعد أيام قليلة بأحد الحزبيين في المنطقة يطلبني للحضور في المنظمة الحزبية حالاً. وعندما ذهبت هناك وجدت شخصين يحملان معهما حقيبة ذات نوعية ممتازة. فسلماني الحقيبة، بعد أن أخبراني بأنها هدية من "السيد النائب" وعندما فتحتها، وجدت فيها مجموعة من الكتب العلمية المتخصصة بالهندسة النووية، ومظروفاً يحوي على مبلغ 500 دينار عراقي. ومظروفاً آخرا فيه كتاب رسمي موجه من صدام حسين شخصياً الى وزير التعليم العالي، يأمره فيه بمنحي بعثة لدراسة الهندسة النووية في لندن أو أمريكا. وذلك بعد تخرجي من الدراسة الإعدادية. لكنني وجدت في الكتاب الرئاسي، شروطاً أربعة: منها: أن أحصل على معدل يزيد على الثمانين في المائة، وأن أترك الشعر، وأتفرغ للدراسة النووية. وهكذا وضع صدام قدمي على سكة الهندسة، وليس على سكة الشعر، على الرغم من اني لم أذهب في هذه البعثة إلا بعد أن أنهيت الدراسة الجامعية في كلية الهندسة ببغداد، وسبب عدم دراستي الهندسة النووية، هو رفض الوالد أولاً : "ولأني مو بعثي" أيضاً.
نكتفي بهذا القدر من حديث الدكتور نزار أحمد هذا الاسبوع لنستكمل هذه القصة في الأسبوع المقبل، إذ سيحدثنا عن ندسة النووية، والشعر، وعلاقته بكرة القدم، وخصوصاً موضوعه مع حسين سعيد ذلك الموضوع الذي كثر اللغط، والحديث حوله، مكما سيحدثنا عن كتاباته السياسية الحادة.
المزيد في الملف الصوتي